النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: : رواية فوضى الحواس _احلام مستغانمي

  1. #1
    سبيستوني مبادر الصورة الرمزية here3
    تاريخ التسجيل
    04 Aug 2013
    الحنس:
    أنثى
    المشاركات
    880

    : رواية فوضى الحواس _احلام مستغانمي

    بين حين وآخر, كانت تصلني صرخات شاب, أتوقع انهم يقومون باستجوابه على طريقتهم, وهو ما زاد حزني وشعوري بالعجز والألم.
    في لحظة ما.. توقعت أنهم ألقوا القبض على القاتل. ولكن كنت أشك في أمر كهذا. فلم يحدث أن ألقوا القبض على قاتل بهذه السرعة.
    ثم حضر فجأة شرطي, وطلب مني مرافقته.
    هذه المرة كان ينتظرني في مكتب مؤثث بلياقة أكثر, تتناسب مع رتبة الضابط الجالس خلفه, تعلوه صورة الرئيس الشاذلي بن جديد.
    نهض الضابط لمصافحتي وطلب مني الجلوس.
    بادرته بالسؤال:
    - هل عثرتم على القاتل؟
    أجاب وهو يرتب بعض أوراقه:
    - لا.. نحن نعتمد على شهادتك لمساعدتنا في ذلك.
    أبتلع ريقي. يواصل:
    - كلّ التفاصيل تعنينا. حاولي أن تتذكري كلّ شيء.
    أجيب:
    - لا.. أنا كنت أنظر نحو الجسر.. عندما سمعت طلقات نارية. وعندما التفت.. رأيت شاباً يركض ويختفي في الزقاق المتفرع عن الجسر.
    - أتعتقدين أنه كان وحيداً.. أم أن أحداً كان بصحبته؟
    أجيب:
    - أنا لم أر إلا رجلا واحداً يركض. ولا أدري إن كان آخرون في انتظاره, أو في صحبته.
    - كم تتوقعين أن يكون عمره تقريبا؟
    - ربما بين العشرين والخامسة والعشرين..
    - أيمكن أن تصفيه لي؟
    - لا أعرف كيف أصفه.. أنا لمحته من الخلف.
    - هل لاحظت أثناء مشواركم أن سيارة أو دراجة نارية تتبعكم؟
    - لا أدري, فقد كنت مشغولة بالنظر أمامي. أدري فقط أنه أثناء وقوفنا عند الجسر كان هناك زحمة سيارات, وزحمة مارة, وأن البعض كالعادة, كان يتلفت بفضول وينظر إلينا.
    - هل أطلتما الوقوف على الجسر؟
    - لا أعتقد.. ربما بقينا هناك ما يقارب العشر دقائق لا أكثر. أذكر أن السائق قال لي فجأة "هيا نروحوا" وكأنه تنبه لشيء. ثم اتجه نحو السيارة.. وما كدت ألحق به حتى أطلقوا الرصاص عليه.
    - هل من عادتك أن تترددي على هذا المكان؟
    - لا.. إطلاقاً.
    - هل أخبرت أحدا بمشوارك هذا؟
    - لا
    - الشغالة مثلا.. أما قلت لها أين أنت ذاهبة؟
    - لا.. أخبرتها كالعادة أنني سأغادر البيت لا أكثر.
    يتوقف قليلاً وهو يقلب ورقة صغيرة أمامه. ثم يسألني:
    - وأخوك.. هل هو على علم بتنقلاتك؟
    أجيبه دهشة:
    - أخي؟.. ولكنه لا يقطن معي.
    يجيب:
    - أعرف ذلك.
    ثم يواصل:
    - هل لاحظت في الآونة الأخيرة تغيراً في سلوك السائق, شيئاً من العصبية أو شيئا من القلق الواضح في تصرفاته؟
    - لا.. إنه رجل هادئ ومسالم. وكان أثناء مشوارنا الأخير يتحدث إلي بروحه المرحة ذاتها.
    يواصل تسجيل بعض ملاحظاته على ورقة. ثم ينهض ويصافحني قائلاً:
    - قد نتصل بك مرة ثانية إذا كان من ضرورة للتدقيق في بعض التفاصيل.
    ثم يواصل:
    - لقد علمت أن زوجك موجود في مهمة بالعاصمة. سأرسل له خبراً عن طريق الوزارة.. وأقدم له تقريراً حال عودته.
    يرافقني نحو الباب, وطلب من عسكري مرافقتي إلى البيت, فأصافحه. وبصوت لم يعد صوتي أقول "شكرا" وأغادر عالم الحديد.. إلى عالم الذهول والفجيعة.

    * * * *

    مخيفة هي الكتابة دائماً. لأنها تأخذ لنا موعداً مع كل الأشياء التي نخاف أن نواجهها أو نتعمق في فهمها.
    يوم بدأت هذا الدفتر ما كانت نيتي أن أفلسف الأمور حولي. ولذا أكتشف اليوم, أن موت هذا الرجل أكبر مني, يتجاوز حدود فهمي, يتجاوز منطقي, لأنه حدث خارج دفتري. أو بالأحرى على هامش صفحتي. في ذلك الخط الأحمر الدقيق الذي يفصل بين الحياة والكلمات.
    العجيب والمؤلم في موته, أنه مات بسبب بطل وهميّ وكائن حبري, ولم يحدث للموت أن كان في متناول الكلمات, في متناول الوهم إلى هذا الحد!
    ذلك الرجل الذي يكره الجسور, ويكره الأسئلة. أوصلني حبه إلى أسئلة لا جواب لها.
    لماذا مات ذلك الرجل؟ لماذا اليوم؟ لماذا الآن؟ لماذا هناك بالتحديد؟ لماذا هو بالذات؟
    كنت أستدرجه ليختار عنوانا لقدري, فأختار أنا عنوانا لقدره.
    قلت له خذني إلى المكان الذي تحبه الأكثر في هذه المدينة, فسرق الموت سؤالي, وأوصله إلى جوابه الأخير.

    من منّا المتهم الأول الآن في جريمة كهذه؟
    القدر الذي سلمته مقود السيارة وأبرمت معه معاهدة ثقة.. فخانني؟
    أم أنا التي رحت أطارد رجلاً وهميّاً, خارج حدود الورق, وإذا بي أحول لعبة الكتابة إلى لعبة موت؟
    أم ذلك الرجل الوهمي, الذي أقنعني بأن أثق بالقدر, ثم تخلى عنّي, كي يلقنني درساً في كتابة القصص؟
    كل الأسئلة أصبحت تختصر عندي في سؤال واحد:
    موت هذا الرجل جريمة قدر..؟ أم جريمة أدب؟ وبالتالي إلى أية درجة أنا مسؤولة عن موته؟

    ولكن الأمور بالنسبة إلى زوجي, الذي عاد على عجل في صباح اليوم التالي, لا يمكن أن تكون مبسطة إلى هذا الحد. ليس فقط لأنه يجهل القصة التي أكتبها وأعيشها, والتي أوصلتني إلى ذلك الجسر. ولكن لأنه قبل كلّ شيء رجل عسكري. والأسئلة التي تعنيه أسئلة محض بوليسية, لا مكان فيها للقدر, ولا للأدب. وها هي تنهال عليّ مشابهة لتلك التي سبق أن أجبت عنها البارحة. ولكن بنبرة عصبية مختلفة, وبإضافات جديدة هذه المرة.
    - لماذا ذهبت إلى هناك؟ أجننت لتوقفي سيارة رسمية وسط الطريق وتنزلي لتتفرجي على جسر.. وتتبادلي الحديث مع السائق على مرأى من الناس؟
    - أردت أن أرى الجسر عن قرب لا أكثر.. لأنني أراه دائما على تلك اللوحة المعلقة في الصالون.. تلك التي أهداها إلينا الرسام خالد بن طوبال يوم زواجنا. وصادف أن مررت من هناك, فقلت لا بأس أن أنزل وأتفرج على الجسر, ما دمت أتجول وما دام أمامي بعض الوقت.
    - تتجولين؟ أهذه مدينة للفسحة؟ أو هذا زمن للتجوال؟ البلد يعيش حالة حصار معلنة على كل التراب الوطني, وأنت تتجولين؟ ألا تقرأين الجرائد؟ ألا تتحدثين إلى الناس؟ كل يوم يقودون رجال الشرطة, يذبحونهم كالنعاج ويلقون بهم من الجسور..
    - ولكن لا أفهم ما ذنب عمي أحمد في كل هذا؟
    - إنه يقود سيارة عسكرية.. أي أنه عسكري!
    - ولكنه لم يكن يرتدي زياً عسكرياً..
    - لا يهم.. كان في خدمة الدولة.. وهذه تهمة كافية. إلا إذا توقعوا أنه أنا. وفي هذه الحالة كان لهم أكثر من سبب لقتله.
    يصمت قليلاً ثم يطرح سؤاله الأهمّ:
    -أين كنت تجلسين؟
    أُتََمَتِمُ:
    -جواره كما أفعل أحياناً.. [في الواقع كما أفعل دائماً].
    نغرق معا في صمت فاضح. تذهب أفكارنا معا إلى الشيء نفسه.
    في البدء, كان زوجي يحتجّ على جلوسي جوار السائق. ولكنني كنت, مع عمّي أحمد بالذات, عاجزة عن الجلوس خلفه. فقد كان يعيش معنا معظم الوقت كفرد من العائلة. وكان في حضوره شيء من الوفاء والطيبة التي تجعلني أخجل من إعادته خارج البيت, إلى مرتبة سائق وخادم يحمل أشيائي لا أكثر, هو الذي كان يوماً يحمل سلاحاً.
    كنت أحترم ذاكرته الوطنية. أحترم يديه, وشعيرات رأسه الرمادية. ولم يكن يعنيني أن تكون قامته الفارعة توحي بأنه أصغر من عمره, حتى يبدو أحياناً قريباً في مظهره من زوجي. كما لم تعنني يوماً نظرات التعجب التي كانت تقابلني بها زوجات الضبّاط, عندما يفاجئنني جالسة إلى جواره.
    في النهاية, خلافي مع زوجي قد يتلخص في هذا المقعد. فقد كان طموحه الجلوس خلف سائق في سيارة رسمية, وطموحي كان الجلوس جوار رجل في سيارة.
    كان بين أحلامنا مسافة مقعد, لا أكثر. ولكن كانت المسافة أكثر شساعة مّما توقّعت. فأنا لم أكن أعرف قبل اليوم أن اختيارنا الجلوس في مقعد بالذات دون غيره قد يفضح اقتناعاتنا وطموحاتنا إلى هذا الحد, ولا أنه قد يتسبب في قتل رجل بريء, لأنه دون أن يغيّر مكانه, غيّر صفته ورتبته.

    وها أنا إذن, أمام شرح آخر لموته, شرح لا يبرئني أيضاً من دمه, ما دمت بجلوسي جواره, حولته في نظر الآخرين من سائق إلى ضابط, وجعلته بالتالي هدفاً مفضلاً لرصاصهم.
    أفكّر فجأة في غرابة القدر الذي أبدع هذه المرة في كتابة نهاية لحياة هذا الرجل, الذي عاش جندياً بسيطاً.. خمسين سنة. ثم مات برتبة ضابط كبير.
    لقد بلغ أحلامه في اللحظة الأخيرة من عمره. ومات بتهمة أحلامه. وربما سعيداً بها. ألم يمت ضابطاً في المكان الذي يحبه الأكثر في قسنطينة؟ الجسور!
    المكان نفسه الذي من الأرجح, أن يكون قد حارب فيه منذ ثلاثين سنة, وجازف فيه بحياته أكثر من مرة. ولكن الموت لم يأخذه يومها, لأنه لم يرده جندياً متنكراً في برنس المجاهدين, أو شهيداً في عملية فدائية. تلك ميتة عادية.
    أرداه بعد ثلاثين سنة, جندياً يجلس في مقعد ضابط جزائريّ.. ليموت برصاص جزائريّ.
    إن ميتة كهذه, وحدها ميتة استثنائية!

    تذهب بي الأفكار بعيداً. بين السخرية والألم, أتوقف في محطات للنّدم.
    لقد قتلت ذلك الرجل, لا بجنوني فقط, وإنما بطبيعتي أيضاً. وتواضعي المبالغ فيه الذي يجعلني أصر على الجلوس جواره, لأهدي إليه وهم التساوي بي.
    في الواقع, التواضع كلمة لا تناسبني تماماً. أن تتواضع يعني أن تعتقد أنك مهم لسبب أو لآخر, ثم تقوم بجهد التنازل والتساوي لبعض الوقت بالآخرين, دون أن تنسى تماما أنك أهم منهم.
    هذا الشعور لم أعرفه يوماً. لقد كنت دائما امرأة لفرط بساطتها, يعتقد كل البسطاء, وكل الفاشلين حولها أنها منهم.
    ولم يكن من أمل في تغيري: لقد ولدت اقتناعاتي معي. أنا أحب هؤلاء الناس, أتعلم منهم أكثر مما أتعلم من غيرهم, أرتاح لهم أكثر مما أرتاح لغيرهم, لأن العلاقات معهم بسيطة, وأكاد أقول جميلة. بينما العلاقات مع الناس المهمين – أو الذين يبدون كذلك – هي علاقات متعبة ومعقدة.. أي علاقات فاشلة!
    ولذا كانت لي مع ذلك الرجل علاقة, أكتشف الآن جمالية تلقائيتها.

    * * *

    موت عمي أحمد قلب حياتنا رأساً على عقب.
    فأمام اقتناع زوجي بأنه هو الذي كان معنياً بذلك الاغتيال, قرر أن يأخذ تدابير أمنية جديدة. أولها الاستغناء عن سيارته الرسمية. والتنقل من الآن فصاعدا في سيارة عادية يغيّرها بين الحين والآخر.
    ثانياً إحضار سائق جديد.. لن يرافقني إلا للمشاوير الضرورية, على أن أجلس خلفه هذه المرة, ولا أفتح معه أي حديث.
    أما تنقلاتي فستقتصر هذا الأسبوع على زيارة بيت عمي أحمد, لتقديم التعازي لأهله. بينما تكفّل زوجي بإرسال خروف. وأتوقع أن يكون زراهم هذا الصباح.
    أما مشواري الثاني, فسيكون لزيارة أمي وتوديعها, قبل ذهابها إلى الحج, للمرة الثالثة.. أو الرابعة.. لا أدري بالتحديد. فلا أحد يدري هنا عدد حجات الآخر. مذ شاعت ظاهرة المزايدة في كلّ ما له علاقة بمظاهر التقوى.
    فهل من عجب أن أصاب هذا الأسبوع بإحباط, شبيه بالانهيار العصبيّ, وأنا أتنقل من بيت بائس يعلو منه صوت القران, وعويل نسوة مرتديات السواد, مات فيه المعيل الوحيد لسبعة أشخاص, إلى بيتٍ تتنقل فيه أمي بثوبها وشالها الأبيض, وحولها نسوة من كل الأعمار, لبسن كلّ ما في خزانتهن من صيغة وأثواب أنيقة, وجئن يودّعنها للمرة العاشرة. أو بالأحرى جئن ليقنعنها للمرة العاشرة بأنهن لا يقللن عنها ثراء, وبإمكانهن الذهاب إلى الحج أكثر من مرة لو شئن.
    وطبعاً سيكون بينهن بعض نساء الضباط اللائي جئن مجاملة لي. واللائي سيطاردنني بالأسئلة عن "الحادث" تحسباً لما قد ينتظر أزواجهن من مفاجآت.
    ولكنني كنت منذ عدّة أيام, قد فقدت رغبتي في الكلام, وكان حضورهن الباذخ استفزازاً لحزني
    كن نساء الضجر, والبيوت الفائقة الترتيب, والأطباق الفائقة التعقيد, والكلمات الكاذبة التهذيب, وغرف النوم الفاخرة البرودة, والأجساد التي تخفي تحت أثواب باهضة الثمن.. كل ما لم يشعله رجل.
    وكنت أنثى القلق, أنثى الورق الأبيض, والأسرة غير المرتبة, والأحلام التي تنضج على نار خافتة, وفوضى الحواس لحظة الخلق.
    أنثى عباءتها كلمات ضيقة, تلتصق بالجسد, وجمل قصيرة, لا تغطي سوى ركبتي الأسئلة.
    منذ الصغر كنت فتاة نحيلة بأسئلة كبيرة. وكانت النساء حولي ممتلئات بأجوبة فضفاضة.
    ومازلن دجاجات, ينمن باكراً. يقُقْنَ كثيرًا, ويقتتن بفتات الرجولة, وبقايا وجبات الحب التي تقدم إليهن كيفما اتفق. ومازلت أنثى الصمت, وأنثى الأرق.
    فمن أين آتي بالكلمات, كي أتحدث إليهن عن حزني؟
    يومها, لم ينقذني سوى مرور ناصر مصادفة بالبيت. فتحججت به. لأترك مجلس النساء وأخلو به.
    هوذا ناصر أخيراً..
    لا أذكر كم مر من الزمن على آخر لقاء لنا. فلم يحدث خلال سنوات زواجي الخمس أن زارني أكثر من مرة في العام.
    أما بقية لقاءاتنا, فكانت تتم هنا في بيتنا, خلال الأعياد أو المناسبات العائلية.. أو مصادفة مثل اليوم. وكأننا لا نسكن المدينة نفسها.
    لقاؤنا الأخير, كان في عيد الفطر الماضي. بدا لي يومها على غير عادته قلقاً وصامتاً. عادة, يقبلني بشوق. نتبادل بعض أخبارنا. ونضحك أحيانا ونحن نستعيد بعض ذكرياتنا المشتركة. ولكنني احترمت وقتها صمته, ومضيت.
    ناصر يصغرني بثلاث سنوات. ولكنه كان دائما توأم حزني وفرحي, وتوأم رفضي أيضاً.
    ثم انكسر شيء بيننا فجأة, منذ زواجي. حل محله شيء من العتاب الصامت, الذي فسرته في البدء بالغيرة. فقد كان ناصر متعلقاً بي. كنت كل عائلته, كل اقتناعاته, كل مفخرته. هو الذي فشل في الدراسة وتحول تاجراً في عمر ما زال فيه الآخرون يواصلون دراستهم. وكان يرفض أن يأتي رجل غريب ويسرق منه كل شيء كان ينفرد بامتلاكه. حتى إنه قلما لفظ اسم زوجي أمامي. وكأنه لا يعترف بوجوده.

    أذكر منذ سنتين, حاولت أن أناقشه في هذا الموضوع. قلت له "لقد مرّ على زواجي ثلاث سنوات.. وحان لك أن تتقبل هذا الأمر.. إنه مكتوب".
    ولكنه فاجأني متذمراً:
    -مكتوب؟ أن ينهبوا البلاد.. أن يفرغوا أرصدتنا.. ويسطوا على أحلامنا.. ويستعرضوا ثرواتهم على مرأى من بؤسنا. ربما كان هذا مكتوباً.. أما أن يتزوج هؤلاء السفلة بناتنا.. ويمرغوا أسماء شهدائنا في المزابل.. فليس هذا مكتوباً.. أنت التي كتبته وحدك!

    ناصر عمره سبع وعشرون سنة. يصغرني بثلاث سنوات, ويكبرني بقضية.
    لقد جاء العالم هكذا حاملا قضية معه, كما نحمل أسماءً لا نختارها, إذا بنا نشبهها في النهاية. ربما لأن أبي الذي كان مأخوذا بشخصية عبد الناصر, أثناء حرب التحرير, أراد أن يعطيه اسما مطابقا لأحلامه القومية. إذا به دون أن يدري يعطيه اسمين: اسمه كواحد من كبار شهداء الجزائر, ولقباً لأكبر زعيم عربيّ.

    ناصر تقاسم كل شيء مع الوطن, يتمه.. واسمه الذي لم يعد اسمه. ناصر عبد المولى, كان الطفل المدلل لذاكرة الوطن. ولكن ليس بالضرورة طفل الوطن المدلل. ولد باسم أكبر منه, وضع على كتفيه برنساً للوجاهة.
    وكانت تلك مصيبته.




    سهلاً أن تكون ابن رمز وطني. دون أن تشعر بالبرد تحت ذلك المعطف الفاخر السميك.
    فماذا تراه كان يلبس, تحت ذلك المعطف. ليتدفأ في زمن الخيبات؟
    ماذا تراه كان يخبئ تحت برنس الصمت؟
    أقبله بشوق. أبادره كعادتي بلهجة قسنطينية, مسروقة كلماتها من قاموس الأمومة:
    -واش راك.. يا اميمة توحشتك..؟
    يجيب:
    - مليح.. يعيّشك.
    ويجلس في جبته البيضاء مقابلا لي. استنتج أنه عائد من الصلاة, أو ذاهب إليها. فلم يحدث أن التقيت به, إلا وكان بين صلاتين.. أو بين قضيّتين.
    كما الآن, عندما أقول له, وكأنني أبحث عن موضوع أبادره به:
    - لقد جئت لأودع "ما".. يبدو أنه لن تشبع من الحج..
    فيجيبني:
    -لقد قلت لها إن أجرها سيكون أعظم لو تصدقت بثمن حجتها إلى فقراء العراق ولكنها لم تصدقني...
    فأصمت ولا أدري كيف أواصل معه الحديث.

    ناصر لم يشف بعد من حرب الخليج. عند بدء الاجتياح العراقيّ كان يعيش مشتتاً.. مضطرباً. ينام وهو من أنصار صدام حسين, ويستيقظ وهو يدافع عن الكويت.
    ثم ما كادت الأحداث تأخذ منحى المواجهة العسكرية والتحالف العالمي ضد العراق, حتى انحاز نهائيا إلى العراق مأخوذا ب"أم المعارك".
    كان مثل الجميع يراهن على المستحيل, ويحلم بمعركة كبرى.. نحررّ بها فلسطين!
    ولكنه عند سقوط أول صواريخ عراقية على إسرائيل ووقوعها على أراض قاحلة, طلبني ليلاً ليقول لي "أهذا هو السكود الذي كان يهدد به صدام العالم.. إنه ليس أكثر من "تحميلة" وضعتها إسرائيل في مؤخرتها..!".
    ضحكت.. ولم أتوقع أن يكون لهذه الحرب كلّ ذلك التأثير في ناصر.
    كانت تلك الفترة هي الوحيدة التي كان خلالها ناصر يتردد عليّ, ربما ليجد أحداً ينقل إليه تذمره وسخطه لا أكثر. فقد كان يدري, أن بإمكانه أن ينقل إلي أية عدوى من هذا القبيل.
    كذلك اليوم الذي زارني فيه وفاجأني جالسة أمام أوراقي. وكنّا في عزّ تلك الفجائع, وما تلاها من إهانات. فراح يؤنبني وكأنني ارتكبت ذنباً في حق أحد. مردداً:
    - لا أفهم من أين لك القدرة على مواصلة الكتابة وكأن شيئاً لم يحدث. لا هذه الأرض التي تتحرك تحت قدميك.. ولا هذا لدمار الذي ينتظر أمة بكاملها منعاك من الكتابة.. توقفي.. تأملي الخراب حولك. لا جدوى ممّا تكتبين..
    قلت كمن يعتذر:
    - ولكنني كاتبة..
    صاح بي:
    - ولأنك كاتبة عليك أن تصمتي.. أو تنتحري. لقد تحولنا في بضعة أسابيع إلى من أمة كانت تملك ترسانة نووية.. إلى أمة لم يتركوا لها سوى السكاكين.. وأنت تكتبين. وتحولنا من أمة تملك أكبر احتياطي مالي في العاغلم, إلى قبائل متسولة في المحافل الدولية.. وأنت تكتبين. هؤلاء الذين تكتبين من أجلهم.. إنهم ينتظرون أن يتصدق عليهم الناس بالرغيف وبالأدوية.. ولا يملكون ثمن كتاب. أما الآخرون فماتوا. حتى الأحياء منهم ماتوا.. فاصمتي حزناً عليهم..!
    لا أظن أن ناصر كان يتوقع, أنه بهذه الكلمات التي ربما غيّر رأيه فيها بعد ذلك, قد غير مساري في الكتابة, وأرغمني على الصمت سنتين.
    ... سنتين كاملتين, تعلمت فيهما أن أحتقر كلّ أولئك الكتاب, الذين في الجرائد والمجلات واصلوا الحياة دون خجل, أمام جثمان العروبة.
    كنت أرى القنوات الأمريكية, تتسابق لنقل مشاهد "حية" عن موت جيش عربي يمشي رجاله جياعا في الصحارى. يسقطون على مدى عشرات الكيلومترات كالذباب في خنادق الذل, مرشوشين بقنابل الموت العبثيّ, دون أن يدروا لماذا يحدث لهم هذا.
    وأرى قوافل البائسين. هاربة بالشاحنات من بلد عربي إلى آخر. تاركة كلّ شيء خلفها, بعد عمر من الشقاء.. دون أن تفهم لماذا.
    وأرى الكويتييّن يرقصون في الشوارع حاملين الأعلام الأمريكية. مقبّلين صور بوش, مهدين الجنرال شوارزكوف حفنة من تراب الكويت. ولا أفهم كيف وصلنا إلى كلّ هذا.
    وحده رجل غير مكترث بنا, لم يفقد قريباً في أي حرب من الحروب التي ارتجلها, ولا فقد في زمن المجاعة, ولو شيئاً من وزنه, كان يظهر على الشاشات, يمارس السباحة على مرأى من غرقنا.
    واعداً إيانا بمزيد من الانتصارات.

    خلال تلك الفترة.. لم تفارقني فكرة الانتحار. ولم يمنعني من تحقيقها سوى فجيعة أمّي بموتي.
    في الواقع كنت أبحث لي عن موت "استعراضيّ" كبير لا يشبه في شيء بندقية الصيد المتواضعة التي أطلق بها خليل حاوي, رصاصة على جبينه في 7 حزيران 1982 احتجاجا على اجتياح إسرائيل للبنان, على مرأى من كل الأخوان والجيران العرب, بعد أن قال لأصدقائه "أين هذه الأمة؟ من العار أن أقول أنا عربي أمام هذا التفرج المخزي".
    كنت أريد لي انتحارا على قدر فجيعتي, شبيها بانتحار الكاتب الياباني مشيما, الذي بعد أن سلم الجزء الرابع والأخير من روايته الرباعية, إلى المطبعة. توجه ذات صباح أحد, لتنفيذ الفصل الأخير من حياته كما خطط له إعلاميا, بعد أن قرر الانتحار, احتجاجا على خروج اليابان مذلولة من الحرب العالمية أمام أمريكا, وضياع شخصيتها القومية أمام الغزو الغربي.
    الجميل أنه استعد لموته, بأخذ دروس خاصة بالمصارعة والفروسية, والكمال الجسماني. ما مكنه من أخذ قائد القوات اليابانية كرهينة, والتوجه بخطاب حماسي إلى ألف جندي ياباني, كانوا مجتمعين لمناسبة وطنية.
    وعندما لم يترك خطابه أثرا في ذلك الجيش المهزوم, عاد ميشيما إلى غرفة قائد القوات. وارتدى اللباس التقليدي الياباني. عاقدا أربطته وأزراره برباطة جأش ملحوظة. ثم دعا المصورين ليأخذوا له صورا, رفقة جيشه الصغير, المكون من مائة شاب, أعدهم للموت دفاعا عن عظمة اليابان. ووقف ممسكا بسيفه السامورائي المحظور, لينتحر مباشرة أما عدسات المصورين, هو ومساعده, وفقا لطريقة الهاراكيري الرهيبة في الانتحار, الواحد تلو الاخر.
    سلاما ميشيما.
    أينما كنت أيها الصديق, أقبل جبين رأسك المفصول عن جسدك. والملقى منذ نوفمبر 1970 عند أقدام الوطن, رفضا أبديا لذل الانحناء لأمريكا.
    ما زلت اتساءل: أكنا وقتها متفائلين أم سذجا كي ننحاز إلى أمة متمادية في هزيمتها وعنادها, كي تنجز بتفوق كل ذلك الاخفاق!
    في تلك الفترة أصبح ناصر ضرورة يومية, لبقائي على قيد العروبة, مزايدا علي في كل شيء, رافضا أن أشتم أمامه نظاما عربيا بالتحديد. فإما أن أشتمها واحدا.. واحدا.. [لأسباب يسردها علي مطولة مفصلة.. ومقنعة] أو أصمت. ففي شتم نظام عربي دون آخر بالنسبة إليه, ما يفوق جريمة السكوت عنه.
    أذكر كان يمر بي أحيانا؛ يقضي برفقتي بعض الوقت, ثم يمضي قائلا "كان الله في عون هذه الأمة, نصف حكامها عملاء, والنصف الآخر مجانين!".
    ثم فجأة تغير ناصر.
    لم يعد يحدثني عن الستة والعشرين مليارا التي تبخرت من خزينة الدولة الجزائرية, ولا عن أصدقائه, الذين انضموا إلى لوائح آلاف الطلبة والشباب القسنطينيين, الجاهزين للدفاع عن العراق, والاستشهاد تحت علمها, الذي اضيف إليه للمناسبة "الله أكبر", وهو ما جعل بعض الساخرين يقترح أن يضاف إلى العلم الجزائري شعار "الله غالب" أي لا نستطيع شيئا من أجلكم... ولا عن تلك الإشاعات التي كان يصدقها الجميع, والتي كانت تقول إن إسرائيل حصلت على صاروخ يطول الجزائر, وهي تستعد لضرب قسنطينة.
    وهو ما جعل الناس يعيشون لمدة شهر, على أهبة حرب, كأنهم يتمنون حدوثها لمتعة الجهاد.. أو لولعٍ بالاستشهاد.

    لا أدري.. أهو الذي فقد شهيته للكلام, أم أنا التي فقدت حماسي لكلّ القضايا, ودخلت في حالة ذهول من أمري.
    بين خيباته الوطنية, وإفلاس أحلامه القومية, غسل يديه من العروبة, أو على الأصح, توضأ ليجد قضيته الجديدة في الأصولية.
    وأنا التي عشت دائما متأخرة عنه بقضية, لم أفهم ما الذي كان يحدث له بالتحديد. ولماذا هو بين لقاء وآخر, يصبح بعيدا, يصبح غريبا عني إلى هذا الحد.
    حتى إنني لم أعد أجرؤ على أن أتبادل معه ضحكة أو نكتة كعادتي. لم أعد أجرؤ حتى على مخالفة رأيه, خشية أن يجادلني ويناقشني بمنطق ليس لي من جواب عليه.
    أحاول استدراجه للحديث أقول:
    - لقد أنقذتني بقدومك.. فأنا لا صبر لي على هذا الرهط من النساء.
    يجيب:
    - لقد اخترت أن تدخلي هذا العالم.. وعليك الآن أن تتقبليه.
    أشعر أنني على وشك أن أنفجر في وجهه. ولكنني أهدئ نفسي, فأقول بصوت مؤثر, وكأنني أستجدي منه لطفا:
    -ناصر.. أنت تدري تماما أن هذا الجو ليس جوي. ولن نعود إلى الحديث في هذا الموضوع. أنا متعبة, ومرهقة. لقد مات عمي أحمد منذ ثلاثة أيام على مقربة مني. ما حدث له أمر مريع.. شيء لا يصدق!
    أتوقع منه كلمة مواساة, أو كلمة يترحم بها على روحه. ولكنه يصمت. ولا أدري أمن تأثره, أم لأن الأمر لا يعنيه, أم..؟
    تذهب أفكاري بعيدا. وفي لحظة أتصور الاحتمالات الأكثر جنونا. وصوت ذلك الضابط يعود فجأة ليسألني "هل أخوك على علم بتنقلاتك؟" فأجيبه "لا.. إنه لا يسكن معي" فيرد "أنا أعرف ذلك".
    ...لولا أن صوت ناصر يأتي بعد صمت طويل لينقذني من سكتة قلبية وهو يقول:
    - رحمه الله.. كان رجلا طيبا.
    أكاد أشكره. أرتمي فجأة عليه. أقبله وأجهش بالبكاء. فلا يملك إلا أن يحتضنني.
    دموعي تسيل لتبلل لحيته التي تلتصق بخدي, وتعطيني إحساسا غريبا. أشعر كأنه أبي.. هو الذي كان دائما ابني.
    يسألني وهو يضمني إليه.
    - واش بيك حياة..؟
    لا أجيب. أتمتع بضمته لي, بحنانه المفاجئ. أشعر فجأة؛ بأنني كنت في حاجة إلى حنان دون أن أدري, وأنه منذ سنوات لم يحدث لأحد أن ضمني بحنان, فقط بحنان, دون شهوة ولا رغبة.
    أقول له وسط دموعي:
    - ناصر.. عاملني بحنان.. هل يجوز الحنان في شريعتك؟ أنت كل ما أملك في هذه الدنيا. إذا شئت لا تكن معي. ولكن لا تكن ضدي. هذا يؤلمني كثيرا. أنت الذي تضع جثمان أبي دائما بيننا.. وتزايد على الجميع في رفع اسم الشهداء.. لم يكن أبي يريد لنا قدرا كهذا.. لا أريد أن يأتي يوم نصبح فيه أعداء, فقط لأننا لا نفكر بالطريقة نفسها.
    من منا كان يبكي لحظتها؟ لا أدري.
    أدري فقط أن بعض الضحكات كانت تأتيني من الغرفة الأخرى, حيث تتسامر نساء ينتظرهن عند الباب سائق لم يمت بعد, وأنني قررت أن أغادر البيت دون أن أودعهن.

    لم أعد أذكر أي حدث بالتحديد كان سببا لانهياري, بعد ذلك, وأوصلني حدّ فقدان شهية الحياة.
    لا شيء كان يغريني, ولا أحد كانت تعنيه حياتي.
    أمي كانت مشغولة عني بحجتها. زوجي مشغول عني بمسؤولياته. وأخي بقضيته, والبلد بمواجهاته. وعندما أردت أن أجد لنفسي رجلا وهميا, أطلقوا الرصاص على أوهامي.
    هذه مدينة, لا تكتفي بقتلك يوما بعد آخر, بل تقتل أيضا أحلامك, وتبعث بك إلى مخفر, لتدلي بشهادتك في جريمة أوصلتك إليها الكتابة.
    زوجي الذي لم يكن له من وقت, ليحاول فهمي, ولا كان يدري ماذا يجب أن يفعل بي, هو يراني أنغلق على نفسي كمحار, قرر أن يبعث بي إلى العاصمة لأرتاح بعض الوقت على شاطئ البحر, حتى مرور تلك الزوبعة.
    وكانت تلك أجمل فكرة خطرت في ذهنه منذ زمن بعيد. وهدية القدر التي.. لم أتوقعها.


    * * *



    طبعًا
    قلما تأتي تلك الأفراح التي ننتظرها في محطة.
    وقلما يجيء، أولئك الذين يضربون لنا موعدًا.فيتأخر بنا أو بهم القدر.
    ولذا، أصبحت أعيش دون رزنامة مواعيد، كي أوفر على نفسي كثيرًا من الفرح المؤجل.
    مذ قررت أنه ليس هناك من حبيب يستحق الانتظار، أصبح الحب مرابطًا عند بابي، بل أصبح بابًا ينفتح تلقائيًا حال اقترابي منه .
    وهكذا تعودت أن أتسلّى بهذا المنطق المعاكس للحب.

    وكنت جئت إلى هذه المدينة دون مشاريع، ودون حقائب تقريبًا.
    وضعت في حقيبة يدي ثيابًا قليلة،اخترتها دون اهتمام خاص لأقنع نفسي أن لا شيء كان ينتظرني هناك...عدا البحر.
    البحر الذي يملك حقّ النّظر إليّ في ثياب خفيفة، دون أن يناقشه أحد في ذلك .ولذا جئته بأخف ما أملك،وبتواطؤ صامت ،فانا لا أدري إن كنت جئت حقًا من أجله.
    عندما نسافر، نهرب دائمًا من شيء نعرفه. ولكن نحن لاندري بالضرورة ،ماالّذي جئنا نبحث عنه.
    أترك حقيبتي ملقاة على سرير شاسع، لن يشغله سواي. وأذهب لاكتشاف البيت الذي سأقضي فيه أسبوعًا أو اسبوعين.
    في الواقع، اذهب لاكتشاف مزاج الأمكنه، وماتبثّه روحها من ذبذبات، أستشعرها منذ اللّحظة الأولى.
    أحببت هذا البيت : هندسته المعماريّة تعجبني، وحديقته الخلفيّة ، حيث تتناثر بعض أشجار البرتقال واللّيمون, تغريني بالجلوس على مقعد حجري, تظللّه ياسمينة مثقلة. فأجلس، وأستسلم للحظة حلم.

    البيوت أيضًا كالناس.هنالك ماتحبه من اللّحظة الأولى. وهنالك مالاتحبه. ولو عاشرته وسكنته سنوات.
    ثمّة بيوت تفتح لك قلبها.. وهي تفتح لك الباب. وأخرى معتمة، مغلقة على أسرارها، ستبقى غريبًا عنها، وإن كنت صاحبها.
    هذا البيت يشبهني . نوافذه لاتطلّ على أحد. أثاثه ليس مختارًا بنيّة أن يبهر أحدًا. وليس له من سرٍ يخفيه على أحد.
    كلّ شيء فيه أبيض وشاسع .لاتحده سوى خضرة الأشجار أوزرقة البحر و السماء .
    بيت لايغري سوى بالحب والكسل، وربما بالكتابة.

    أتساءل وأنا أتأمله، من ترى سكن هذا البيت. ومن مرّ به قبلي، ليؤثثه ويعتني بحديقته إلى هذا الحدّ..خلال أكثر من ربع قرن؟ فمن الواضح أنّه بيت يعود إلى أيّام الاحتلال الفرنسي، يوم كان كبار الاقطاعيّين الفرنسيّين، يعمرون فيلّيات فخمة على الشواطئ الجزائريًة، غالبًا ماتكون غير بعيدة عن السهول والأراضي الزراعيّة، الّتي كانوا يمتلكونها، وحيث ياتون للاصطياف.
    بعد الاستقلال، حجزت الدولة الأملاك الشاغرة التي تركها المعمرون الفرنسيون لتكون مقرّاً صيفيّاً لكبار الضباط والمسؤولين الذين أصبح لهم وجود شرعيّ ودائم على موريتي وسيدي فرج ونادي الصنوبر.
    ومن الأرجح أن تكون هذه الفيلا هي إحدى هذه الأملاك التي يتناوب عليها الضبّاط كل صيف، قبل أن يأتي من يحجزها نهائيّاً، مستندًا إلى نجومه الكثيرة ، أو إلى أكتافه العريضة. وسيشتريها حسب قانون جديد، بدينار مزيّ مثير للعجب.
    متى حصل زوجي على هذه الفيلاّ .. وكيف؟ أسئلة لا يعنيني الجواب عنها ، ولكنّها تقودني إلى التفكير فيه.
    فأتذكر أنني لم أطلبه هاتفيًا لأطمئن إلى سلامتنا، كما طلب مني أن أفعل حال وصولنا .
    في الواقع، كان اسهل وأكثر راحة لنا أن نسافر، أنا وفريدة، بالطّائرة. ولكن زوجي أصرّ ان يرافقنا السائق بالسيّارة لخدمتنا. وحراسة هذا البيت الكبير، الذي لايمكن أن نبقى فيه بمفردنا، وذلك بانتظار أن يلحق بنا بعض الأهل ..
    في انتظار ذلك أمامي عدّة أيام للّراحة، لا أدري تمامًا كيف أنفقها، والتي أبدأها بأخذ حمام دافئ، واللّجوء إلى النوم احتفالاً بحريّتي.

    رحت أستعجل النوم. أحاول أن أنام دون أن اقع في فح الأحلام. ثمّة غرف جميلة إلى حد الحزن، تعاقبك أسرّتها بالحلم!
    وبرغم ذلك، في الصّباح، لم أنج من جسدي. كنت أستيقظ وتستيقظ رغبة داخلي . تلفّني رائحة شهوتي فأبقى للحظات، مبعثرة تحت شرشف النوم النسائي الكسول.
    يستبقيني إحساس بمتعة مباغته، لم أسع إليها . جاءني بها البحر على سيريري..ليتحرش بي.
    على غير عادتي.. أستيقظ باكرًا هذا الصباح. وكأنّني أريد أن استفيد من كل لحظة حريّة قد تسرق مني فجأة، لأيّ سببٍ كان.
    يفاجئني جوع صباحيّ لايقاوم، وكأنّ شهيتي للحياة قد تضاعفت هنا، فابعث بالسّائق لإحضار لوازم الفطور، وأبقى لأتفرج على البحر.

    رائحته بعد ليلة كاملة من المدّ والجزر تزحف نحوي متوحّشة تستفزّ حواسّي بشهيّة غامضة للحب.
    أتجاهل اعترافه الفاضح بليلة حب قضاها على مقربة مني، منشغلاً بترويض الأمواج، بينما كنت أنا منشغلة عنه بترويض حواسّي والهروب بنفسي من تلك الهواجس التي كانت تطاردني وتعكر مزاج نومي.
    البارحة نمت نومًا عميقًا، كما لم أنم منذ أيام . شعرت بمعنى السكينة، وكأنني تركت كل شيء خلفي، وجئت لألقي بنفسي هنا، على سرير شاسع، لاذاكرة له.
    والآن لارغبة لي سوى في تناول فطوري، والخروج صحبة فريدة على الأقدام، لا كتشاف هذه المنطقة.

    حتّى قبل ان يغريني شاطئ(سيدي فرج) بمنشآته السياحيّة ومركباته التجاريّة. اذهلني مصادفة وجودي دائمًا في الأماكن التي يطوقها التاريخ، والتي تشهر ذاكرتها في وجهك عند كل منعطف.
    "سيدي فرج" ليس في النهاية اسمًا لوليّ صالح، مازال النّاس يترددون على ضريحه، طالبين بركاته، إنما اسم المرفا الذي دخلت فرنسا منه على الجزائر.
    فهنا رست سفنها الحربية ، ذات 5 يوليو من صيف 1830، بعدما تم تحطيم الوسائل الدّفاعية المتواضعة الموضوعة في مسجد " سيدي فرج" وتحويله مركزًا لقيادة أركان المستعمرين.
    وشاءت الأقدار، او بالأحرى شاء المفاوضون الجزائريون، ان يجعلوا فرنسا تغادر الجزائر بعد قرن وثلاثين سنة، في هذا التاريخنفسه، ليصبح 5 يوليو أيضًا تاريخ استقلالنا.
    نعم.. في زمن سابق، كان الجزائريون يصرّون على كتابة التاريخ بغرورهم!
    "حادثة المروحة "الشهيرة نفسها، والتي صفع بها الدّاي وجه القنصل الفرنسي، والتي تذرعت بها فرنسا آنذاك لدخول الجزائر، بحجة رفع الإهانة، ليست إلا دليلاً على كبريائنا أو عصبيتنا ..وجنونا المتوارث.
    وربما كغمزةٍ للتاريخ، تفنن الجزائريون غداة الاستقلال في هندسة هذا المرفق، وبنوه على شكل قلعة عصرية، جاعلين برج (سيدي فرج) ومنارته ، ذوي علوّ شاهق أو هكذا يبدوان وكأن هناك من يتوقع قدوم عدو من البحر..
    ولكن العدو منذ ذلك الحين. لم يعد يأتي من البحر.. ولا بالضرورة من الخارج!


    سهلاً أن تكون ابن رمز وطني. دون أن تشعر بالبرد تحت ذلك المعطف الفاخر السميك.
    فماذا تراه كان يلبس, تحت ذلك المعطف. ليتدفأ في زمن الخيبات؟
    ماذا تراه كان يخبئ تحت برنس الصمت؟
    أقبله بشوق. أبادره كعادتي بلهجة قسنطينية, مسروقة كلماتها من قاموس الأمومة:
    -واش راك.. يا اميمة توحشتك..؟
    يجيب:
    - مليح.. يعيّشك.
    ويجلس في جبته البيضاء مقابلا لي. استنتج أنه عائد من الصلاة, أو ذاهب إليها. فلم يحدث أن التقيت به, إلا وكان بين صلاتين.. أو بين قضيّتين.
    كما الآن, عندما أقول له, وكأنني أبحث عن موضوع أبادره به:
    - لقد جئت لأودع "ما".. يبدو أنه لن تشبع من الحج..
    فيجيبني:
    -لقد قلت لها إن أجرها سيكون أعظم لو تصدقت بثمن حجتها إلى فقراء العراق ولكنها لم تصدقني...
    فأصمت ولا أدري كيف أواصل معه الحديث.

    ناصر لم يشف بعد من حرب الخليج. عند بدء الاجتياح العراقيّ كان يعيش مشتتاً.. مضطرباً. ينام وهو من أنصار صدام حسين, ويستيقظ وهو يدافع عن الكويت.
    ثم ما كادت الأحداث تأخذ منحى المواجهة العسكرية والتحالف العالمي ضد العراق, حتى انحاز نهائيا إلى العراق مأخوذا ب"أم المعارك".
    كان مثل الجميع يراهن على المستحيل, ويحلم بمعركة كبرى.. نحررّ بها فلسطين!
    ولكنه عند سقوط أول صواريخ عراقية على إسرائيل ووقوعها على أراض قاحلة, طلبني ليلاً ليقول لي "أهذا هو السكود الذي كان يهدد به صدام العالم.. إنه ليس أكثر من "تحميلة" وضعتها إسرائيل في مؤخرتها..!".
    ضحكت.. ولم أتوقع أن يكون لهذه الحرب كلّ ذلك التأثير في ناصر.
    كانت تلك الفترة هي الوحيدة التي كان خلالها ناصر يتردد عليّ, ربما ليجد أحداً ينقل إليه تذمره وسخطه لا أكثر. فقد كان يدري, أن بإمكانه أن ينقل إلي أية عدوى من هذا القبيل.
    كذلك اليوم الذي زارني فيه وفاجأني جالسة أمام أوراقي. وكنّا في عزّ تلك الفجائع, وما تلاها من إهانات. فراح يؤنبني وكأنني ارتكبت ذنباً في حق أحد. مردداً:
    - لا أفهم من أين لك القدرة على مواصلة الكتابة وكأن شيئاً لم يحدث. لا هذه الأرض التي تتحرك تحت قدميك.. ولا هذا لدمار الذي ينتظر أمة بكاملها منعاك من الكتابة.. توقفي.. تأملي الخراب حولك. لا جدوى ممّا تكتبين..
    قلت كمن يعتذر:
    - ولكنني كاتبة..
    صاح بي:
    - ولأنك كاتبة عليك أن تصمتي.. أو تنتحري. لقد تحولنا في بضعة أسابيع إلى من أمة كانت تملك ترسانة نووية.. إلى أمة لم يتركوا لها سوى السكاكين.. وأنت تكتبين. وتحولنا من أمة تملك أكبر احتياطي مالي في العاغلم, إلى قبائل متسولة في المحافل الدولية.. وأنت تكتبين. هؤلاء الذين تكتبين من أجلهم.. إنهم ينتظرون أن يتصدق عليهم الناس بالرغيف وبالأدوية.. ولا يملكون ثمن كتاب. أما الآخرون فماتوا. حتى الأحياء منهم ماتوا.. فاصمتي حزناً عليهم..!
    لا أظن أن ناصر كان يتوقع, أنه بهذه الكلمات التي ربما غيّر رأيه فيها بعد ذلك, قد غير مساري في الكتابة, وأرغمني على الصمت سنتين.
    ... سنتين كاملتين, تعلمت فيهما أن أحتقر كلّ أولئك الكتاب, الذين في الجرائد والمجلات واصلوا الحياة دون خجل, أمام جثمان العروبة.
    كنت أرى القنوات الأمريكية, تتسابق لنقل مشاهد "حية" عن موت جيش عربي يمشي رجاله جياعا في الصحارى. يسقطون على مدى عشرات الكيلومترات كالذباب في خنادق الذل, مرشوشين بقنابل الموت العبثيّ, دون أن يدروا لماذا يحدث لهم هذا.
    وأرى قوافل البائسين. هاربة بالشاحنات من بلد عربي إلى آخر. تاركة كلّ شيء خلفها, بعد عمر من الشقاء.. دون أن تفهم لماذا.
    وأرى الكويتييّن يرقصون في الشوارع حاملين الأعلام الأمريكية. مقبّلين صور بوش, مهدين الجنرال شوارزكوف حفنة من تراب الكويت. ولا أفهم كيف وصلنا إلى كلّ هذا.
    وحده رجل غير مكترث بنا, لم يفقد قريباً في أي حرب من الحروب التي ارتجلها, ولا فقد في زمن المجاعة, ولو شيئاً من وزنه, كان يظهر على الشاشات, يمارس السباحة على مرأى من غرقنا.
    واعداً إيانا بمزيد من الانتصارات.

    خلال تلك الفترة.. لم تفارقني فكرة الانتحار. ولم يمنعني من تحقيقها سوى فجيعة أمّي بموتي.
    في الواقع كنت أبحث لي عن موت "استعراضيّ" كبير لا يشبه في شيء بندقية الصيد المتواضعة التي أطلق بها خليل حاوي, رصاصة على جبينه في 7 حزيران 1982 احتجاجا على اجتياح إسرائيل للبنان, على مرأى من كل الأخوان والجيران العرب, بعد أن قال لأصدقائه "أين هذه الأمة؟ من العار أن أقول أنا عربي أمام هذا التفرج المخزي".
    كنت أريد لي انتحارا على قدر فجيعتي, شبيها بانتحار الكاتب الياباني مشيما, الذي بعد أن سلم الجزء الرابع والأخير من روايته الرباعية, إلى المطبعة. توجه ذات صباح أحد, لتنفيذ الفصل الأخير من حياته كما خطط له إعلاميا, بعد أن قرر الانتحار, احتجاجا على خروج اليابان مذلولة من الحرب العالمية أمام أمريكا, وضياع شخصيتها القومية أمام الغزو الغربي.
    الجميل أنه استعد لموته, بأخذ دروس خاصة بالمصارعة والفروسية, والكمال الجسماني. ما مكنه من أخذ قائد القوات اليابانية كرهينة, والتوجه بخطاب حماسي إلى ألف جندي ياباني, كانوا مجتمعين لمناسبة وطنية.
    وعندما لم يترك خطابه أثرا في ذلك الجيش المهزوم, عاد ميشيما إلى غرفة قائد القوات. وارتدى اللباس التقليدي الياباني. عاقدا أربطته وأزراره برباطة جأش ملحوظة. ثم دعا المصورين ليأخذوا له صورا, رفقة جيشه الصغير, المكون من مائة شاب, أعدهم للموت دفاعا عن عظمة اليابان. ووقف ممسكا بسيفه السامورائي المحظور, لينتحر مباشرة أما عدسات المصورين, هو ومساعده, وفقا لطريقة الهاراكيري الرهيبة في الانتحار, الواحد تلو الاخر.
    سلاما ميشيما.
    أينما كنت أيها الصديق, أقبل جبين رأسك المفصول عن جسدك. والملقى منذ نوفمبر 1970 عند أقدام الوطن, رفضا أبديا لذل الانحناء لأمريكا.
    ما زلت اتساءل: أكنا وقتها متفائلين أم سذجا كي ننحاز إلى أمة متمادية في هزيمتها وعنادها, كي تنجز بتفوق كل ذلك الاخفاق!
    في تلك الفترة أصبح ناصر ضرورة يومية, لبقائي على قيد العروبة, مزايدا علي في كل شيء, رافضا أن أشتم أمامه نظاما عربيا بالتحديد. فإما أن أشتمها واحدا.. واحدا.. [لأسباب يسردها علي مطولة مفصلة.. ومقنعة] أو أصمت. ففي شتم نظام عربي دون آخر بالنسبة إليه, ما يفوق جريمة السكوت عنه.
    أذكر كان يمر بي أحيانا؛ يقضي برفقتي بعض الوقت, ثم يمضي قائلا "كان الله في عون هذه الأمة, نصف حكامها عملاء, والنصف الآخر مجانين!".
    ثم فجأة تغير ناصر.
    لم يعد يحدثني عن الستة والعشرين مليارا التي تبخرت من خزينة الدولة الجزائرية, ولا عن أصدقائه, الذين انضموا إلى لوائح آلاف الطلبة والشباب القسنطينيين, الجاهزين للدفاع عن العراق, والاستشهاد تحت علمها, الذي اضيف إليه للمناسبة "الله أكبر", وهو ما جعل بعض الساخرين يقترح أن يضاف إلى العلم الجزائري شعار "الله غالب" أي لا نستطيع شيئا من أجلكم... ولا عن تلك الإشاعات التي كان يصدقها الجميع, والتي كانت تقول إن إسرائيل حصلت على صاروخ يطول الجزائر, وهي تستعد لضرب قسنطينة.
    وهو ما جعل الناس يعيشون لمدة شهر, على أهبة حرب, كأنهم يتمنون حدوثها لمتعة الجهاد.. أو لولعٍ بالاستشهاد.

    لا أدري.. أهو الذي فقد شهيته للكلام, أم أنا التي فقدت حماسي لكلّ القضايا, ودخلت في حالة ذهول من أمري.
    بين خيباته الوطنية, وإفلاس أحلامه القومية, غسل يديه من العروبة, أو على الأصح, توضأ ليجد قضيته الجديدة في الأصولية.
    وأنا التي عشت دائما متأخرة عنه بقضية, لم أفهم ما الذي كان يحدث له بالتحديد. ولماذا هو بين لقاء وآخر, يصبح بعيدا, يصبح غريبا عني إلى هذا الحد.
    حتى إنني لم أعد أجرؤ على أن أتبادل معه ضحكة أو نكتة كعادتي. لم أعد أجرؤ حتى على مخالفة رأيه, خشية أن يجادلني ويناقشني بمنطق ليس لي من جواب عليه.
    أحاول استدراجه للحديث أقول:
    - لقد أنقذتني بقدومك.. فأنا لا صبر لي على هذا الرهط من النساء.
    يجيب:
    - لقد اخترت أن تدخلي هذا العالم.. وعليك الآن أن تتقبليه.
    أشعر أنني على وشك أن أنفجر في وجهه. ولكنني أهدئ نفسي, فأقول بصوت مؤثر, وكأنني أستجدي منه لطفا:
    -ناصر.. أنت تدري تماما أن هذا الجو ليس جوي. ولن نعود إلى الحديث في هذا الموضوع. أنا متعبة, ومرهقة. لقد مات عمي أحمد منذ ثلاثة أيام على مقربة مني. ما حدث له أمر مريع.. شيء لا يصدق!
    أتوقع منه كلمة مواساة, أو كلمة يترحم بها على روحه. ولكنه يصمت. ولا أدري أمن تأثره, أم لأن الأمر لا يعنيه, أم..؟
    تذهب أفكاري بعيدا. وفي لحظة أتصور الاحتمالات الأكثر جنونا. وصوت ذلك الضابط يعود فجأة ليسألني "هل أخوك على علم بتنقلاتك؟" فأجيبه "لا.. إنه لا يسكن معي" فيرد "أنا أعرف ذلك".
    ...لولا أن صوت ناصر يأتي بعد صمت طويل لينقذني من سكتة قلبية وهو يقول:
    - رحمه الله.. كان رجلا طيبا.
    أكاد أشكره. أرتمي فجأة عليه. أقبله وأجهش بالبكاء. فلا يملك إلا أن يحتضنني.
    دموعي تسيل لتبلل لحيته التي تلتصق بخدي, وتعطيني إحساسا غريبا. أشعر كأنه أبي.. هو الذي كان دائما ابني.
    يسألني وهو يضمني إليه.
    - واش بيك حياة..؟
    لا أجيب. أتمتع بضمته لي, بحنانه المفاجئ. أشعر فجأة؛ بأنني كنت في حاجة إلى حنان دون أن أدري, وأنه منذ سنوات لم يحدث لأحد أن ضمني بحنان, فقط بحنان, دون شهوة ولا رغبة.
    أقول له وسط دموعي:
    - ناصر.. عاملني بحنان.. هل يجوز الحنان في شريعتك؟ أنت كل ما أملك في هذه الدنيا. إذا شئت لا تكن معي. ولكن لا تكن ضدي. هذا يؤلمني كثيرا. أنت الذي تضع جثمان أبي دائما بيننا.. وتزايد على الجميع في رفع اسم الشهداء.. لم يكن أبي يريد لنا قدرا كهذا.. لا أريد أن يأتي يوم نصبح فيه أعداء, فقط لأننا لا نفكر بالطريقة نفسها.
    من منا كان يبكي لحظتها؟ لا أدري.
    أدري فقط أن بعض الضحكات كانت تأتيني من الغرفة الأخرى, حيث تتسامر نساء ينتظرهن عند الباب سائق لم يمت بعد, وأنني قررت أن أغادر البيت دون أن أودعهن.

    لم أعد أذكر أي حدث بالتحديد كان سببا لانهياري, بعد ذلك, وأوصلني حدّ فقدان شهية الحياة.
    لا شيء كان يغريني, ولا أحد كانت تعنيه حياتي.
    أمي كانت مشغولة عني بحجتها. زوجي مشغول عني بمسؤولياته. وأخي بقضيته, والبلد بمواجهاته. وعندما أردت أن أجد لنفسي رجلا وهميا, أطلقوا الرصاص على أوهامي.
    هذه مدينة, لا تكتفي بقتلك يوما بعد آخر, بل تقتل أيضا أحلامك, وتبعث بك إلى مخفر, لتدلي بشهادتك في جريمة أوصلتك إليها الكتابة.
    زوجي الذي لم يكن له من وقت, ليحاول فهمي, ولا كان يدري ماذا يجب أن يفعل بي, هو يراني أنغلق على نفسي كمحار, قرر أن يبعث بي إلى العاصمة لأرتاح بعض الوقت على شاطئ البحر, حتى مرور تلك الزوبعة.
    وكانت تلك أجمل فكرة خطرت في ذهنه منذ زمن بعيد. وهدية القدر التي.. لم أتوقعها.


    * * *



    طبعًا
    قلما تأتي تلك الأفراح التي ننتظرها في محطة.
    وقلما يجيء، أولئك الذين يضربون لنا موعدًا.فيتأخر بنا أو بهم القدر.
    ولذا، أصبحت أعيش دون رزنامة مواعيد، كي أوفر على نفسي كثيرًا من الفرح المؤجل.
    مذ قررت أنه ليس هناك من حبيب يستحق الانتظار، أصبح الحب مرابطًا عند بابي، بل أصبح بابًا ينفتح تلقائيًا حال اقترابي منه .
    وهكذا تعودت أن أتسلّى بهذا المنطق المعاكس للحب.

    وكنت جئت إلى هذه المدينة دون مشاريع، ودون حقائب تقريبًا.
    وضعت في حقيبة يدي ثيابًا قليلة،اخترتها دون اهتمام خاص لأقنع نفسي أن لا شيء كان ينتظرني هناك...عدا البحر.
    البحر الذي يملك حقّ النّظر إليّ في ثياب خفيفة، دون أن يناقشه أحد في ذلك .ولذا جئته بأخف ما أملك،وبتواطؤ صامت ،فانا لا أدري إن كنت جئت حقًا من أجله.
    عندما نسافر، نهرب دائمًا من شيء نعرفه. ولكن نحن لاندري بالضرورة ،ماالّذي جئنا نبحث عنه.
    أترك حقيبتي ملقاة على سرير شاسع، لن يشغله سواي. وأذهب لاكتشاف البيت الذي سأقضي فيه أسبوعًا أو اسبوعين.
    في الواقع، اذهب لاكتشاف مزاج الأمكنه، وماتبثّه روحها من ذبذبات، أستشعرها منذ اللّحظة الأولى.
    أحببت هذا البيت : هندسته المعماريّة تعجبني، وحديقته الخلفيّة ، حيث تتناثر بعض أشجار البرتقال واللّيمون, تغريني بالجلوس على مقعد حجري, تظللّه ياسمينة مثقلة. فأجلس، وأستسلم للحظة حلم.

    البيوت أيضًا كالناس.هنالك ماتحبه من اللّحظة الأولى. وهنالك مالاتحبه. ولو عاشرته وسكنته سنوات.
    ثمّة بيوت تفتح لك قلبها.. وهي تفتح لك الباب. وأخرى معتمة، مغلقة على أسرارها، ستبقى غريبًا عنها، وإن كنت صاحبها.
    هذا البيت يشبهني . نوافذه لاتطلّ على أحد. أثاثه ليس مختارًا بنيّة أن يبهر أحدًا. وليس له من سرٍ يخفيه على أحد.
    كلّ شيء فيه أبيض وشاسع .لاتحده سوى خضرة الأشجار أوزرقة البحر و السماء .
    بيت لايغري سوى بالحب والكسل، وربما بالكتابة.

    أتساءل وأنا أتأمله، من ترى سكن هذا البيت. ومن مرّ به قبلي، ليؤثثه ويعتني بحديقته إلى هذا الحدّ..خلال أكثر من ربع قرن؟ فمن الواضح أنّه بيت يعود إلى أيّام الاحتلال الفرنسي، يوم كان كبار الاقطاعيّين الفرنسيّين، يعمرون فيلّيات فخمة على الشواطئ الجزائريًة، غالبًا ماتكون غير بعيدة عن السهول والأراضي الزراعيّة، الّتي كانوا يمتلكونها، وحيث ياتون للاصطياف.
    بعد الاستقلال، حجزت الدولة الأملاك الشاغرة التي تركها المعمرون الفرنسيون لتكون مقرّاً صيفيّاً لكبار الضباط والمسؤولين الذين أصبح لهم وجود شرعيّ ودائم على موريتي وسيدي فرج ونادي الصنوبر.
    ومن الأرجح أن تكون هذه الفيلا هي إحدى هذه الأملاك التي يتناوب عليها الضبّاط كل صيف، قبل أن يأتي من يحجزها نهائيّاً، مستندًا إلى نجومه الكثيرة ، أو إلى أكتافه العريضة. وسيشتريها حسب قانون جديد، بدينار مزيّ مثير للعجب.
    متى حصل زوجي على هذه الفيلاّ .. وكيف؟ أسئلة لا يعنيني الجواب عنها ، ولكنّها تقودني إلى التفكير فيه.
    فأتذكر أنني لم أطلبه هاتفيًا لأطمئن إلى سلامتنا، كما طلب مني أن أفعل حال وصولنا .
    في الواقع، كان اسهل وأكثر راحة لنا أن نسافر، أنا وفريدة، بالطّائرة. ولكن زوجي أصرّ ان يرافقنا السائق بالسيّارة لخدمتنا. وحراسة هذا البيت الكبير، الذي لايمكن أن نبقى فيه بمفردنا، وذلك بانتظار أن يلحق بنا بعض الأهل ..
    في انتظار ذلك أمامي عدّة أيام للّراحة، لا أدري تمامًا كيف أنفقها، والتي أبدأها بأخذ حمام دافئ، واللّجوء إلى النوم احتفالاً بحريّتي.

    رحت أستعجل النوم. أحاول أن أنام دون أن اقع في فح الأحلام. ثمّة غرف جميلة إلى حد الحزن، تعاقبك أسرّتها بالحلم!
    وبرغم ذلك، في الصّباح، لم أنج من جسدي. كنت أستيقظ وتستيقظ رغبة داخلي . تلفّني رائحة شهوتي فأبقى للحظات، مبعثرة تحت شرشف النوم النسائي الكسول.
    يستبقيني إحساس بمتعة مباغته، لم أسع إليها . جاءني بها البحر على سيريري..ليتحرش بي.
    على غير عادتي.. أستيقظ باكرًا هذا الصباح. وكأنّني أريد أن استفيد من كل لحظة حريّة قد تسرق مني فجأة، لأيّ سببٍ كان.
    يفاجئني جوع صباحيّ لايقاوم، وكأنّ شهيتي للحياة قد تضاعفت هنا، فابعث بالسّائق لإحضار لوازم الفطور، وأبقى لأتفرج على البحر.

    رائحته بعد ليلة كاملة من المدّ والجزر تزحف نحوي متوحّشة تستفزّ حواسّي بشهيّة غامضة للحب.
    أتجاهل اعترافه الفاضح بليلة حب قضاها على مقربة مني، منشغلاً بترويض الأمواج، بينما كنت أنا منشغلة عنه بترويض حواسّي والهروب بنفسي من تلك الهواجس التي كانت تطاردني وتعكر مزاج نومي.
    البارحة نمت نومًا عميقًا، كما لم أنم منذ أيام . شعرت بمعنى السكينة، وكأنني تركت كل شيء خلفي، وجئت لألقي بنفسي هنا، على سرير شاسع، لاذاكرة له.
    والآن لارغبة لي سوى في تناول فطوري، والخروج صحبة فريدة على الأقدام، لا كتشاف هذه المنطقة.

    حتّى قبل ان يغريني شاطئ(سيدي فرج) بمنشآته السياحيّة ومركباته التجاريّة. اذهلني مصادفة وجودي دائمًا في الأماكن التي يطوقها التاريخ، والتي تشهر ذاكرتها في وجهك عند كل منعطف.
    "سيدي فرج" ليس في النهاية اسمًا لوليّ صالح، مازال النّاس يترددون على ضريحه، طالبين بركاته، إنما اسم المرفا الذي دخلت فرنسا منه على الجزائر.
    فهنا رست سفنها الحربية ، ذات 5 يوليو من صيف 1830، بعدما تم تحطيم الوسائل الدّفاعية المتواضعة الموضوعة في مسجد " سيدي فرج" وتحويله مركزًا لقيادة أركان المستعمرين.
    وشاءت الأقدار، او بالأحرى شاء المفاوضون الجزائريون، ان يجعلوا فرنسا تغادر الجزائر بعد قرن وثلاثين سنة، في هذا التاريخنفسه، ليصبح 5 يوليو أيضًا تاريخ استقلالنا.
    نعم.. في زمن سابق، كان الجزائريون يصرّون على كتابة التاريخ بغرورهم!
    "حادثة المروحة "الشهيرة نفسها، والتي صفع بها الدّاي وجه القنصل الفرنسي، والتي تذرعت بها فرنسا آنذاك لدخول الجزائر، بحجة رفع الإهانة، ليست إلا دليلاً على كبريائنا أو عصبيتنا ..وجنونا المتوارث.
    وربما كغمزةٍ للتاريخ، تفنن الجزائريون غداة الاستقلال في هندسة هذا المرفق، وبنوه على شكل قلعة عصرية، جاعلين برج (سيدي فرج) ومنارته ، ذوي علوّ شاهق أو هكذا يبدوان وكأن هناك من يتوقع قدوم عدو من البحر..
    ولكن العدو منذ ذلك الحين. لم يعد يأتي من البحر.. ولا بالضرورة من الخارج!
    <h3 style="color:red;">&nbsp;</h3>
    <p><img alt="" src="http://www.up-11.com/do.php?img=189" /></p>
    <p>&nbsp;</p>
    <p><img alt="" src="http://www.up-11.com/do.php?img=190" /></p>
    <p>&nbsp;</p>
    <p>&nbsp;</p>
    <p><img alt="" src="http://im40.gulfup.com/ARnSl.gif" /></p>
    <p>&nbsp;</p>
    <p><span style="color:#ff3366;"><span style="font-size:16px;"><span style="font-family:comic sans ms,cursive;">تكريمات من المجموعة</span></span></span></p>
    <p><img alt="" src="http://im32.gulfup.com/cstn7.jpg" /></p>
    <p>&nbsp;</p>
    <p><span style="color:#ff3366;"><span style="font-size:16px;"><span style="font-family:comic sans ms,cursive;">اوسمتي ^--^</span></span></span></p>
    <p>&nbsp;</p>
    <p><img alt="" src="http://im40.gulfup.com/l5c11.gif" /></p>
    <p>&nbsp;</p>
    <p>&nbsp;</p>
    <p><img alt="" src="http://im40.gulfup.com/Xr5bN.gif" /></p>
    <p>&nbsp;</p>
    <p><img alt="" src="http://im40.gulfup.com/njuep.jpg" /></p>
    <p>&nbsp;</p>
    <p><img alt="" src="http://im40.gulfup.com/hGaeF.gif" /></p>
    <p>&nbsp;</p>
    <p>&nbsp;</p>
    <p><img alt="" src="http://im41.gulfup.com/4JjPt.jpg" /></p>
    <p>&nbsp;</p>

  2. #2
    سبيستوني برونزي الصورة الرمزية amirahlem
    تاريخ التسجيل
    18 Jun 2012
    الحنس:
    أنثى
    المشاركات
    61,001

  3. #3
    سبيستوني مبادر الصورة الرمزية here3
    تاريخ التسجيل
    04 Aug 2013
    الحنس:
    أنثى
    المشاركات
    880
    منورة و ملاحضة انا بنت
    <h3 style="color:red;">&nbsp;</h3>
    <p><img alt="" src="http://www.up-11.com/do.php?img=189" /></p>
    <p>&nbsp;</p>
    <p><img alt="" src="http://www.up-11.com/do.php?img=190" /></p>
    <p>&nbsp;</p>
    <p>&nbsp;</p>
    <p><img alt="" src="http://im40.gulfup.com/ARnSl.gif" /></p>
    <p>&nbsp;</p>
    <p><span style="color:#ff3366;"><span style="font-size:16px;"><span style="font-family:comic sans ms,cursive;">تكريمات من المجموعة</span></span></span></p>
    <p><img alt="" src="http://im32.gulfup.com/cstn7.jpg" /></p>
    <p>&nbsp;</p>
    <p><span style="color:#ff3366;"><span style="font-size:16px;"><span style="font-family:comic sans ms,cursive;">اوسمتي ^--^</span></span></span></p>
    <p>&nbsp;</p>
    <p><img alt="" src="http://im40.gulfup.com/l5c11.gif" /></p>
    <p>&nbsp;</p>
    <p>&nbsp;</p>
    <p><img alt="" src="http://im40.gulfup.com/Xr5bN.gif" /></p>
    <p>&nbsp;</p>
    <p><img alt="" src="http://im40.gulfup.com/njuep.jpg" /></p>
    <p>&nbsp;</p>
    <p><img alt="" src="http://im40.gulfup.com/hGaeF.gif" /></p>
    <p>&nbsp;</p>
    <p>&nbsp;</p>
    <p><img alt="" src="http://im41.gulfup.com/4JjPt.jpg" /></p>
    <p>&nbsp;</p>

  4. #4
    سبيستوني نشيط الصورة الرمزية s..a..l..m..a
    تاريخ التسجيل
    22 Jul 2013
    الحنس:
    أنثى
    المشاركات
    348
    اللة عليكى رواية مدهشة
    <p><span style="font-size:16px;"><span style="color:#ff0000;">ناروتو</span> <span style="color:#000000;">....ابتسامتك هى التى انقذتنى ....</span>.<span style="color:#ff0000;">ناروتو</span> <span style="color:#000000;">♥~♥</span></span></p>
    <p><img alt="" src="http://www.spacetoon.com/spacetoon/docroot/UserFiles/Image/1393594046844.jpg" style="width: 403px; height: 365px;" /></p>
    <p>------------------------------------------------------------------------------------------------------------------</p>
    <p>&nbsp;</p>

  5. #5
    ✾ سبيستوني مبتهج ✾ الصورة الرمزية hkdhvh
    تاريخ التسجيل
    25 Jun 2013
    الحنس:
    أنثى
    المشاركات
    18,581
    السلام عليكم ~
    رواية فوضى الحواس
    عندما رأيت الكتاب سرعان مابدأت بقرأته
    انها رواية بائسه جريئه غامضه
    الصمت يتخلخلها مع نطق حروفها
    قرأت هذه الروايه كامله قبل شهر من هذا اليوم
    حقا رائعه
    (^_^)

  6. #6
    ✾سبيستوني محترف✾ الصورة الرمزية khadidjalina
    تاريخ التسجيل
    05 Jan 2017
    الحنس:
    أنثى
    المشاركات
    12,089
    ​شكرا على الموضوع

    My heart stéréo


المواضيع المتشابهه

  1. مدونه~فوضى. .{المشااعر}
    بواسطة hayoota في المنتدى زمردة
    مشاركات: 16
    آخر مشاركة: 02-23-2020, 01:48 AM
  2. قلوبهم معنا وقنابلهم علينا _ أحلام مستغانمي
    بواسطة raneemghamdi في المنتدى زمردة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 07-10-2013, 11:57 PM
  3. الحواس
    بواسطة kawwtar في المنتدى رياضة
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 02-28-2012, 05:52 PM
  4. o0 ثورة الحواس 0o
    بواسطة naro في المنتدى زمردة
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 01-30-2011, 08:46 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •