رائحة الفجر الجميلة تتنشرُ في السماء السوداء وأصوات العصافير التي خرجت من أعشاشها بدأ صوتها يعلو المكان تدريجياً لتعلن عن اقتراب موعد استيقاظ الشمس .
غسلَ وجهه بقطرات الماء الباردة ليستعدَ لصبحِ جديد رغمَ أنّه لم يذق طعمَ النومِ منذُ ذلك اليوم الذي قُرر فيه أخذُ ممتلكاتِ الراحل ليبريت فقد كانَ باله مشغولاً ولم يطمئن بعد , نظرَ للمكان الذيّ هو فيه فقد كان في غرفةِ صغيرة مطلية باللون الأسود الباهت كانت الغرفة ضيقة فموقعها في الدورِ الأرضي ويوجد فيها سرير صغير بالإضافة إلى طاولة دائرية خشبية صغيرة جداً بجانبه تنهدَ رولند وقالَ بصوتِ هادئ .
ـ ألم يجد سوى هذه الغرفة لتكونَ ليّ ؟! .
لم يكن بداخل ذلك الشاب أنّه يريدُ غرفة واسعة أو حتى فخمة ولكن موقعها التي هيّ تحت القصر في الدور الأرضي كانت أشبه بسجن مظلم فالإضاءة فيها غيرُ جيده كما أنّه لا يوجد في ذلك الدور سوى المستودعات ولا يوجد فيه غيره وهذا ما أزعجه قليلاً فقد أخبره شيمون بأنّه لا توجد غرفة شاغرة في الدور الثاني لأن أغلبها تخضعُ للتجديد .
رتبّ سريره البسيط ثمّ قامَ بحملِ ملابسِ الخدم التي وضعها له شيمون رفعها بيده ونظرَ إليها , كانت بلونِ بني اللون ويوجدُ فيها من أعلى الكتف خيوطُ سوداء وأخرى بلونِ الكاكاو تمتدُ بشكلِ جانبي حتى نهايتها من جهة اليمين بينما كانَ البنطال أسود اللون تزينه خيوطُ بنفسِ لون البذلة بدت وأنّها ثمينة , قامَ بحملها ثمّ اتجه ليستحم ويبدأ يومه بنشاطِ وحيوية رغمَ عدم علمه بما تخبئه له الساعات القادمة .
ـــــــ
ما إن انتهى رولند من تجهيز نفسه حتى قامَ بصعودِ الدرجات ليصل للدورِ الأول من القصر حيثُ الواجهة الأساسية التي يسكنُ فيها ميلان وأول ما حطت قدميه أعتابه حتى استقبلته أشعة الصباح , سارعَ بوضعِ ذراعه على عينيه ليخفف من ضوئها حيثُ أنّها كانت تنيرُ القصرَ بأكمله فهي تنعكسُ من زجاجات القصر الكبيرة بشكل خيالي لتنشرَ أشعتها الدافئة في المكان كله , ابتسمَ رولند وشعرَ بقليلِ من الدفء أبعد ذراعه عن عينيه وأخذَ يتأمل خيوطها الجميلة .
جاء شيمون مسرعاً نحوه عندما رآه يقفُ وهو ينظرُ لحديقة القصر من خلالِ زجاجات النوافذ ولكنّه توقفَ في منتصفِ طريقه عندما رأى هيئة ذلك الشاب الذي بدى له وكأنه أحدُ النبلاء من العصور الوسطى فقد كانَ اللبسُ الجديد الذي اختاره ميلان ليعمَ جميع الخدم به كانَ مناسباً جداً بالنسبةِ له فقد أظهرَ وسامته بشكلِ مميز
تقدمَ نحوه وناداه .
ــ رولند .
التفت رولند نحوَ من ناداه وعندما رأى أنّه شيمون حتى ابتسمَ بحيوية و قالَ له برسمية .
ـ صباحُ الخير .
ابتسمَ شيمون عندما رآه بذلك النشاط فقد كانَ قلقاً من أن يكونُ غاضباً أو أنّ مزاجه متعكر لأن ميلان اختار غرفته لتكونَ في الدورِ الأرضي بينما بقية الخدم هم في الدور الثاني بجناحِ خاص وواسع .
ـ صباح الخير , أريدُ أن أخبركَ بأمر ما .
اعتدل رولند في وقفته وقالَ له مستعداً لأي عملِ يطلبه كبير الخدم .
ـ تفضل قل ما تريده .
ارتبكَ شيمون ولم يعلم كيفَ يخبره بذلك فقد كان سيده معارضاً لتلكَ الفكرة فمرت عليه ذكرى الأمس سريعاً في ذهنه .
كانَ ميلان مستعداً للنوم فقد جلسَ على سريره وهو بملابسِ نومه وها هو شيمون يحملُ بيده صينيه فيها كأسُ ماء ليعطيّه إياه .
أخذَ الكأس من الصينية الزجاجية وشربه دفعةً واحدة فماءُ بارد قد ذابت فيه حبّة ثلج كانت كافيه بإرواء ظمئه .
تحدثَ شيمون بتردد وقالَ له بابتسامة مرتبكة .
ـ سيدي ما رأيك لو جعلتَ الخادم الجديد خاص بك ؟!
أمسكَ ميلان الكأس بيده بقوة وقطبّ حاجبيه بغضب فلم يعجبه ما قاله له كبير خدمه مما جعله يقولُ بنبرةِ مرعبة .
ـ أخبرتك أنّنّي أكره جميع الخدم !! جمعهم حثالة !!! ثمّ ماذا أريدُ بخادمِ خاص !!! لكي يعلمَ ما يحيطِ بي ثمّ يخونني ببساطة !؟ .
ارتعدت اوصالَ شيمون عندما تلمسَ تلكَ النبرة الغاضبة وتلكَ الطريقة المرعبة التي قالها له وأجابه عن سؤاله .
رفعَ ميلان عينيه بحدّة وكأنما انهى حديثه وأراد تحذيره من ذلك الأمر, وضعَ يده على بطانيته القطنية ذات النقوشِ الجميلة ثمَ رمى نفسه على سريره الفخم ذو الملمسَ الدافئ وأغمضَ عينيه لينام .
أبعد تلكَ الذكرى وقالَ له بعزم مخلوط ببعضِ القلق .
ـ أريدك أن تكونَ الخادمَ الخاص لـ سيد ميلان .
تعجبَ رولند من الطريقة التي أخبره فيها شيمون فقد كانَ متردداً ومرتبكاً في كلامه وكأنّ ما سيقوله أمرُ غيرُ جيد .
طأطأ شيمون رأسه وقالَ وهو يحركُ يديه بارتباك .
ـ أنا آسف لأني طلبتُ منكَ ذلك ولكن ..... .
صمتَ قليلاً ثمّ قالَ له وهو يشدَ قبضة يده بانزعاج .
ـ إن سيدي يكره جميعَ الخدم ومهما يكن لا بد من أحدنا أن يتولى أمره لكنّه في كل مرة يرفضُ ذلك مما يجعلنا نقعُ في كثير من المتاعب ..لذا أرجوك هل يمكنك أن تتحملَ تصرفاته وأفعاله وتكونَ جديراً بذلك .
لم يجد رولند أيّ مشكلة في ذلك فقالَ له بنبرةِ تدلُ على طيبة قلبه .
ـ لا بأس في ذلك .
شعرَ شيمون بالفرحِ الشديد عندما سمعَ جملته وأنه لا يمانع في ذلك أمسكَ بكلتا يديه وقالَ له بنبرةِ شاكرة عميقة .
ـ أشكرك كثيراً ... سوفَ أخبرك بما يجبُ عليكَ القيام به .
جذبه من يديه وأسرعَ في خطواته وخلفه رولند الذي أخذَ يتبعه بابتسامة بلهاء ....
كانَ جوابه سريعاً لم يفكر في ذلك مطلقاً ...! فلم يكن ذلكَ غريباً فكونه جديد ولا يعلمُ شيئاً عن تصرفاتِ السيد ميلان ولا عن الحياة التي يعيشها فيها فقد وافقَ على ذلك ,,
وبعدَ ثواني قليلة طغت على ملامح شيمون الجمود وهو يمسكُ بيدِ رولند بينما قلبه يعتصرُ تردداً وقلقاً فهوَ يعلمُ أنّ ذلك سيكونُ قاسياً عليه ولكن إذا فكر بالأمر بطريقةِ أخرى .. فربما يستطيعُ ميلان ان يرتاحَ لوجوده أو أن يشاركه ايّ شيء بما أنّه متقاربان في السن وكلاهما شابان صغيران .
ـــــــــ

وفي شقة ميدوري ...

فردت ذراعيها للأعلى لتمدد وتستعيدَ نشاطها ,رفعت شعرها القصير بربطةِ صغيرة ثم نظرتْ إلى الطفلين لتجدهما لا زالا نائمين ابتسمت واقتربت منهما جلست على ركبتيها وأخذت تتأملهما , كانَ شكلهم لطيفاً فهما نائمين على بساطِ على الأرض حيثُ أن لين تضعُ يدها قرب فمها بطريقة طفولية ولير بجانبها يلامس يدها وكأنما يخبرها بأنّه سيكونُ معها دائماً سحرت لمنظرهما وأطلقت ضحكة خفيفة , وقفت على قدميها من جديد وصفقت بيدها بخّفة فعليها تجهيز مائدة الإفطار فهي ليست لوحدها اليوم , انطلقت نحو مطبخها الصغير الذي توجدُ فيه نافذة صغيرة مطلة على الشرفة , فتحت الثلاجة وأخرجت علبة حليب كانت قد اشترتها بالأمس عندما ودعت رولند وضعتها على طاولةِ بيضاء مستديرة وبدأت تصنعُ شرائح خبز محمصة مع حبة بيضِ مقلية لتناولها مع كوبِ من الحليب الدافئ , انتهت من تجهيز الفطور
فوضعت شرائح الخبز في صينيه ثمّ انطلقت بها نحو غرفتها الصغيرة دخلت الباب فوجدت الصغيرين قد استيقظا من نومهما وهما الآن يقومان بفركِ أعينها بطفوليه , تذكرت كلام رولند الأمس .
ـ هل يمكنك الإعتناء بهما ؟! .
شعرت بالحزن عندما تذكرت ذلك فلا بدّ أنّه كانَ مجبراً على العمل في ذلك القصر بالرغم من أنّه يكره الأغنياء , حركت رأسها يميناً وشمالاً لتنفضَ تلكَ الأفكار من رأسها أعادت النظرَ للطفلين فأدخلت الهواء لرئتيها ورسمت ابتسامة واسعة لتقولَ لهما .
ـ صباح الخير .. لين .. لير .
رفعا رأسيهما عندما سمعا صوتَ ميدوري , نهضت لين ووقفت على قدميها , أمسكت بملابس نومها القصيرة التي تصلُ إلى منتصفِ ساقيها وقالتْ بصوتِ ناعس طفولي .
ـ صباح الخير .
ابتسمت ميدوري فوضعت الصينية على طاولة قصيرة بمنتصف الغرفة ثمّ جلست على الأرض بقربها فتحت علبة الحليب بابتسامة وقالت لهما وهي تسكبه في الكؤوس الصغيرة .
ـ اذهبا لتمسحا وجهيكما ثمّ اجلسا لتناولُ فطوركما .
أومأ برأسيهما فبدأ لير بطيّ ما نامَ عليه وساعدته لين التي حملت الوسائد ووضعتها في مكانِ ما بجانبِ سرير ميدوري وانطلقا نحو الحمام ليغسلا وجهيهما .
بينما وضعت الفتاة يدها على ذقنها وأخذت تفكر وهي تنظرُ للوسائد التي وضعوها .
ـ يجب عليّ أن أذهب للسوق اليوم , من الجيد أنّه كان معي غطاء للنوم .
عادَ الطفلان بابتسامةِ سعيدة وسارعا بالجلوسِ بالقربِ من ميدوري حولَ الطاولة , ابتسمت ميدوري وبدأت تقربُ لكلِ واحد منهم شريحة خبز وكوبِ من الحليبِ الطازج .



ــــــــ
وفي قصر ميلان ...
كان يقفَ أمام بابِ غرفته ذو النقوشِ الهندسية الاحترافية .. تنهد بعمق فقد أخبره شيمون بما يجبُ عليه وها قد حانَ دوره ليعملَ بما قالَ له ..
ولكنّه لا زالَ يطرقَ البابَ طرقه مرةً ثمّ ثالثة ورابعة فلم يسمع الجرس الذي يتيحُ له الدخول .. لم يجد مشكلة في نفسه بأن يدخل فأدارَ مقبضَ الباب وفتحَه .

أول ما رأته عيناه هو تلكَ الغرفة الواسعة الكبيرة والتي يوجد في منتصفها سجادة بلونِ أحمر داكن مزخرفة بخيوطِ ذهبية اللون .. بينما جدارها ملونُ بألوانِ زاهية وعلى الجانب سريرِ واسع ينامُ عليه لشاب بأريحية , نظرَ رولند لسيده بعينيه الجميلتين فظهرَ له وجه الشاب النائم التي تناثرت على جبينه خصلات شعره التي تحملُ لونَ الكراميل اللذيذ يتنفسُ بهدوء ويبدوا أنّه غارقُ بالنوم ولا يشعرُ بشي ء... تركه ثمّ اتجه للنافذة الزجاجية التي تغطيها ستارة بلونِ بنيّ قاتم أزاحها بيده فبدأت أشعة الشمسُ القوية تنتشرُ في الغرفة بسرعة كبيرة حتى وصلت إلى عيني الشاب النائم .
بدأ رولند يعدّ كلِ شيء دخلَ الحمامِ الخاص بسيده والذي هو متصلٌ بغرفته وكأنما هيّ شقةٌ منفصلة لكبرها, قامَ بإعدادِ حوض الاستحمام ليكون جاهزاً ثمّ ذهبَ سريعاً ليخرجَ لسيده ملابسَ مناسبةً له .
قطبَ ميلان حاجبيه وهو يشعرُ بأصواتِ مزعجة تتسللُ إلى أذنيه وأخرها هو ذلك الضوء الذي يؤذي عينيه وضعَ يده عليها وبدأ بفتحها تدريجياً ثمّ ما لبثَ أن استقامَ جالساً بسرعةِ كبيرة ليعلمِ سببَ هذا الإزعاج , فركَ عينيه بيده اليسرى ونظرَ حوله فوجدَ ظهرَ شاب يقومُ بعملِ شيء وكأنما يرتبُ غرفته .. لم يعجبه الوضع فقالَ بصوته الناعس الذي يخالطه الغضب .
ـ كيفَ تجرأت على الدخول وأنا لم آذن لكَ !؟ .
التفت رولند سريعاً عندما سمعَ صوته ورآه يجلسُ على السرير تركَ ما بيده وتقدمَ نحوه احنى رأسه ثمّ بدأ بتحيةِ الصباح بصوتِ هادئ.
ـ صباح الخير .
وسريعاً جثى على إحدى ركبتيه وبدأ يفتحُ أزارير سترته الخاصة بنومه والتي هي مكونه من سترة فضافة بيضاء اللون وبنطال قطني أزرق وذلك ليستعدَ لأخذِ حمامه الصباحي لم يعجبُ ميلان تصرفَ الشاب الذي أمامه فأمسكه من مقدمة ملابسه وجذبه نحوه وقالَ بنبرةِ غاضبة وهو ينظرُ إليه .

ـ اسمع ... أنت !!! لا تظنّ أنّي قمتَ بجعلكَ خادمِ لي لكِ تفعلَ ما تشاء وقت ما تريد .
لم يهتم رولند لكلامه بل انتهى من فتح آخر زرار وبعدها وضعَ يده على يديه التي يمسكُ بها وقالَ له بنبرةِ جامدة .
ـ انتهيت ... استحم ثمّ قم بالخروجِ إلى حديقة القصر لتناولِ إفطارك فالوقتِ قد تأخر .
نظرَ ميلان إلى ساعته سريعاُ عندما سمعَ آخر جملة فقد كانت بمثابةِ الماء التي صبت عليه فقد كانَ يريدُ أن ينفجرَ غضباً على تصرفِ رولند ولكنّه فضل تأجيل ذلك بما أنّ الوقت تأخر .. وضعَ قدميه الحافيتين على الأرض وأسرعَ بخلعِ سترةِ نومه رمى بها على الأرض ثمّ انطلقَ مسرعاً نحو الحمام فأمامه عملٌ مهم لا يجبُ عليه التأخر .
تنهدَ رولند بعمقِ كبير وهو يراه بتلكَ الحالة .. اقتربِ من سترته وحملها بيده ثمَ وضعها في مكانها المناسب ورجعَ إلى سريره وبدأَ يرتبه ويكمل ما توقفَ العمل فيه .
ـــــــــــ
وبعدِ مرور وقت قصير .
انتهى ميلان من تجهيز نفسه فخرجَ وهو يقومُ بتعديل ربطة عنقه الفضية التي تتناسب مع ملابسه الرسمية السوداء نظرَ لنفسه من خلال المرآه وقامَ بتمشيطِ شعره ليصبحَ شكله مرتباً نظرَ للغرفة من حوله فعبسَ بشفتيه عندما رأى أنّ ذلك الخادم الجديد قد خرجَ من الغرفة بعدَ أن أنهى تنظيف غرفته فلا بدّ أن يقومَ بتعلميه فنون التعامل مع السادة والأغنياء .
خرجَ إلى حديقة القصر ليتناولَ إفطاره بينَ رائحة قطرات الندى وشذى الورود الملونة المزروعة في أماكن مختلفة من نواحي الحديقة , جلسَ على إحدى الكراسي التي يحيطُ بها طاولة دائرية الشكل مثبتة في منتصفها مظلةُ صيفية جميلة , بدأ يتناولُ إفطاره وشيمون يقفُ بجانبه يصبُ له النسكافية بالحليب .
وضعَ الإبريق على الطاولة وبدأ شيمون يذكره بجدول أعماله .
ـ سوفَ تذهب الآن إلى الشركة لترى كيفَ يبليّ فيها عمك وتتعلم منه وبعدَ عودتك ستبدأ بالتحضير لدروسك وواجبتك المفروضة في الجامعة و... .
ـ اصمت .
هذا ما قاله ميلان بانزعاج وهو يقضمُ شريحة خبز مطلية بمربى البرتقال اللذيذ احتسى شرابه ليبتلعَ تلكَ اللقمة ثمّ وضعَ يده على الطاولة وقالَ لـ شيمون بغضب .
ـ لا داعي لتكرار ما تقوله دائماً , لقد سئمتُ من ذلك .
وقفَ على قدميه بعدَ جملته وأزاح الطاولة بيديه أدخلَ يده في جيبِ سترته وأخرجَ نظارةً شمسية فاخرة قامَ بوضعها على شعره وانطلقَ إلى بوابة القصر الخارجية ليركب سيارته الفارهة ولكن ما إن وصل إليها حتى رأى رولند أمامه يمشيّ حاملاً معه صندوق وهو في طريقة للدخولِ للقصر عبر البوابة اغتاظ لرؤية ملامح وجهه الهادئة وحوّل سيره ليكونَ طريقه محاذياً له فهو لن يغفرَ له طريقته التي دخلَ بها غرفته وما إن تقابلاً حتى وقفَ ميلان ورمقه بنظراتِ حادة بينما كانَ رولند غارقاً في أفكاره تزين ملامح وجهه الوسيم الهدوء وكأنّ عينيه تلك لا يرى بها ما حوله حتى أنّه لم يشعر بذلك الشخص الذي مرّ بجانبه فقد كانَ يُفكر بالطفلين الصغيرين وكيفَ بدأ يومهما الأول مع ميدوري .
اغتاظَ ميلان وظنّه قد تجاهله فرجع للوراء بحركةِ سريعة بقدمه وأمسكَ بملابسه من ناحية رقبته ثمّ سحبه نحوه بقوة , تفاجأ رولند واستيقظ من تفكيره التفت نحو الخلف ليرى من ذلك الشخص فلم يعطه ميلان الفرصة بل قامَ بوضعَ يده على فمِ الآخر عندما رآه يريدُ أن يلتفت , دفعه بسرعة للخلف ليصطدم جسد رولند الضعيف في لحظاتِ قليلة بالبوابة الكبيرة ويسقطُ منه الصندوق الذي كان يحمله ويتناثر ما فيه .
اتسعت عيناه بشدّة وهو يرى ميلان بملامحه الغاضبة يقابله وجهاً لوجه , تسارعت دقاتُ قلبه وارتجفَ جسده فقد هلعَ تماماً لحركته المفاجئة .
ضغطَ بأصابعه التي يطبقُ بها على فمه وقالَ له بنبرةِ يتضحُ فيها الغضب الشديد .
ـ أيها الخادم الحقير !!! كيفَ تتجاهلني بهذه الطريقة !!! .
كان في كلّ مرةِ يزيدُ من قوة أطرافَ أصابعه التي تطبقُ على فمِّ رولند بقسوة حتى شعرَ بأنّ فكه سيخلعُ بسببه أغمضَ إحدى عينيه من الألم الذي يشعرُ به .. بينما اقتربَ ميلان منه حتى لامست خصلاته وجه رولند وهمسَ في أذنيه برعب .
ـ اسمع يا هذا إياك وأن تتصرفَ من تلقاء نفسك !!! وإلا في المرة القادمة فلن ترى منّي ما لا يسرك .
أبعدَ يده وغادرَ بمزاجِ غاضب ليستقل سيارته ويذهب بنفسه .

سقطَ رولند على الأرضَ ما إن اختفى سيده من أمامه , أخذَ يستعيدُ أنفاسه فقد أصابه الفزع الشديد وضعَ كم ملابسه على فمه حتى هدأت نبضات قلبه قليلا .
نهضَ بتثاقل بينما بدت أثار أصابع ميلان قد طبعت على وجهه , بدأَ بجمعِ الأدوات المتناثرة ووضعها في الصندوق وأكمل سيره ببطء وقد طغت على ملامح وجهه الجمود حجبَ بخصلات شعره عيناه وأخذَ يتذكرُ موقفاً مشابهاً وما إن بدأت تتسللُ إلى ذاكرته تلكَ الذكرى الفظيعة حتى شعرَ فجأة بالغثيان أسقطَ الصندوق الذي يحمله وسارع بوضعَ يده على فمه اتسعت عيناه بشدّة وانطلقَ راكضاً على الرغم من أنّه لم يتناول سوى قطعة خبز صغيرة محمصة بالجبن كان قد اختارها بنفسه من بينِ جميعَ أصناف مائدة الطعام للخدم
.


ما إن فرغَ ما في بطنه حتى احنى ظهره , أخذَ يلتقطُ أنفاسه المتسارعة وفي كل مرة يجمعَ الماء في كفه ويبدأ يغسلٌ وجهه مرارً وتكرارً حتى ابتلت خصلات شعره .. شعرَ بالغثيان مرةً أخرى فوضعَ يده على فمه مرةً أخرى فكل ذلك حدث بسببِ تذكره فقط للماضي همسَ لنفسه بضيق وهو يحاول أن يتخلص من ذلك الشعور المزعج .
ـ تباَ .. لماذا اليوم أشعرُ بالمرض !! .

ـــــــــــــ

وفي السوق ..
أخذت ميدوري تتجولُ برفقة الطفلين وقد ارتسمت ابتسامة جميلة على شفتيها الوردية فلقد جاءت إلى هنا لشراء ما تحتاجه بالإضافة لتختار للطفلين ملابسَ مناسبة للدخول إلى رياض الأطفال بينما هما يمسكان بأيدهما وقد التمعت أعينهما وكأنهما لأول مرة يشاهدان ذلك المنظر حيثُ الأناس الكثيرين والبضائع في المحلات من كل نوع والأجواء الصاخبة التي لا تهدأ .

ـــــــــــــــ
أوقفَ ميلان سيارته الفارهة أمام مبنى كبير مغطى بالزجاجِ الأزرق الذي أخذَ يعكسُ جميع المباني من حوله وكأنما هو مرآه مربعة الشكل .. نزعَ نظارته ثمّ خطى بخطواته نحوَ البوابة التي فتحت ألياً ما إن تقدمَ باتجاهها .
ما إن أغلقت تلكَ البوابة حتى التفتَ جميع العاملين ليروا ذلك الشاب الوسيم بهيته يدخل الشركة فوقفوا جميعهم وبدأ بألقاء التحية برسمية لرئيسِ الشركة المستقبلي ... بينما ميلان كانَ كلّ ما مرّ من أمامهم يرفعُ يده في دلالةِ منه لكِ يتابعوا عملهم فقد علمه عمّه ذلك ليكونَ جديراً لأن يكونَ الرئيسَ القادم , اتجه نحو المصعد الذي خصص للشخصيات المهمة دخله وضغط على الطابق الثالث حيثُ مكتبَ عمه الرسمي وهو يفكرُ بصباحه الذيّ تعكر مزاجه بسببِ ذلك الخادم .
خرجَ من المصعد وأخذَ يسير كان الطابقُ فخماً جداً تنيره إضاءات صفراء وتملأ جنابته مزهريات كبيرة مملوءة بالوردِ الطبيعي الأحمر بينما جدار قد زيّن بلوحات تعبيرية ذات ألوان هادئة توقف أمام آخر باب من الطابق وبدأ بطرقِه بخفة , سمعَ ذلك الصوت الذي يأذنُ له فأدارَ مقبضَ الباب ودخل .

ـ ميلان ..! كيفَ حالك اليوم !؟ .
هذا أول ما وصلَ إلى مسامع الشاب حينما دخل , التفت إلى مصدر الصوت فوجدَ رجلاً في العقد الرابع تزين وجهه ابتسامة حنونة بينما قد بدأ يظهر على شعره آثار الكبر , كانَ رزيناً ولا يزالَ محتفظاً بوقاره تركَ ما بيده وقالَ بتعجب نحو الشاب الذي سارع بالجلوس على كرسي أمامَ مكتبِ بقربه .
ـ لقد تأخرتَ اليوم !! ما لذي حدثَ لك ؟! .
رفعَ ميلان خصلات شعره والتفت نحو عمه وقالَ له بنبرةِ بتضحُ فيها الغضب .
ـ إنه أحدَ الخدم أفسدَ عليّ صباحي .
ضحكَ ذلك الرجل وأغمضَ عينيه ثمّ قالَ بذات النبرة الحنونة .
ـ يا بني ارفق بهم ... ! .
قطب حاجبيه والتفت نحو عمه وقال بانفعال وهو يحاولُ المحافظة على أعصابه .
ـ عمي !! أنسيت ما لذي فعلوه بي ؟! أتراني قد أنسى تلكَ الأيام التي مررتُ بها بسببِ أحدهم !!!! .
صمتَ قليلاً ثمّ قالَ بحزنِ ظهرَ في عينيه وألم .
ـ جميعهم متشابهون .
اختفت الابتسامة من وجهه عمه ورقّ قلبه وهو يرى بعينيه شكلَ ذلك الشاب الذي يبدوا من ملامح وجهه أنه مرتعب وخائف فيبدوا أنّه لن ينسى ما حصلَ له عندما كانَ صغيراً .
تنهدَ في نفسه دونَ أن يلاحظه ميلان قامَ بحملِ قلمه من جديد ثمّ رسم ابتسامة أخرى ليغير الموضوع .
ـ شكراً لك ميلان فقد فرحَ ابني ألفريدو عندما سلمتُ له ذلك القصر وقد أعجبه كثيراً .
تبدلت ملامح ميلان وجذبه ما قاله له عمه بينما تابع الآخر كلامه .
ـ أنا مدينٌ لك , فقد أعطيتنا أحقيّة شراءه فوقَ الجميع .
شعرَ ميلان ببعض الإحراج فهربَ من نظراتِ عمه وأمسكَ بأحد الملفات ليراجعها فهذا جزء من واجبه الذي يتعلمه لكِ يصبحَ رئيسَ هذه الشركة , ضحكَ هايدن على منظرِ ابنِ شقيقه وهمسَ لنفسه .
ـ لقد بدأت تتعلمُ حقاً ابنَ شقيقي العزيز .

ففي الحقيقة تلكَ الشركة التي يترأسها هايدن عمُ ميلان هي شركةُ ذلك الشاب وهي وتحمل اسم ماليان ولكن بما أنّه لم يبلغ السنَ القانونية لتنصيبه رئيساً كما تنصً قانونين عائلته حيثُ السن المناسبة لتوليّ القيادة هي سنُ العشرون فقد قررَ السيد هايدن عمّ ميلان أن يقومُ بإدارتها له حتى يتمكن من ان يصبحَ رئيساً فشقيقه والدُ ميلان قد مات منذُ أن كانَ ذلك الشاب صغيراً .

وأقربُ الناس إلى قلبِِ ذلك الشخص هو شقيقه الذي دائماً ما كانَ يساعده في كلّ شيء لذا هو يريدُ أن يردّ الدين له عن طريقِ مساعدة ابنه .

بدأ بالعملِ المتواصل ففي كلِ مرةِ يقومُ ميلان بالاطلاع على ما بيدِ عمه من الملفات وتارةً يذهبُ إلى العاملين في الشركة ويسألهم عن اوضاعها وإذا انتصفَ الوقت يشاركهم شربُ القهوة ويتبادل أراءهم وهكذا كانت حياته في شركته والتي يقومُ بالذهابَ إليها كل ما سنحت له الفرصة فلم يتبقى سوى سنةُ واحدة ويكمل عامه العشرين.
ـــــــــــــــــــــــــ ـــ
غربت شمسُ ذلك اليوم وحل المساء ...
أسقطت ميدوري نفسها على السرير بتعب فقد اليومُ مرهقاً ... رفعت البطاقة التي أعطاها رولند لها .. وحدّقت بها ثمّ همست .
ـ إنها تحتوي على مبلغ لا بأس فيه ... ربما تكفينا لشهرِ كامل .
أمالت برأسها لترى لين تفركُ عينيها الخضراء بنعاس , ضحكت في نفسها وقالت .
ـ ربما هي تعبة الآن .
رفعت جسدها بحركة سريعة وأخذت تمددَ ساقيها ثمّ قفزت من الكرسي لتقول لهما .
ـ يجبُ أن نستعدّ للنوم ... فبعدَ يومين ستتمكنانِ من دخولِ رياضِ الأطفال .. وأنا سأحاولُ أخذَ أوراقي للدخول للجامعة مع بداية الفصل الجديد .
التفت لير الذي كان يفرشُ بساطه الصغير الجديد ذو اللون الأزرق المرسوم فيه نجومُ صفراء منسقة وأومأ برأسه بحماسة بينما أسرعت لين لتركض هيّ الأخرى نحو فراشها الجديد ذو اللون الأرجواني المطبوع عليه زهور وردية اللون وتضعه بجانبِ توأمها .
ارتسمت السعادة وجه ميدوري فقد كانا حقاً غير مزعجين كما قالَ رولند , وقفت على قدميها وبدأت تستعد للنوم كما يفعلُ لير ولين .. رغم أن الوقت لا زال مبكراً إلا أنها تريدُ أن تريح جسدها ... حملت منشفة الاستحمام وأخذت ملابسَ نومها وقبلَ أن تخرجَ من الغرفة همست لنفسها .
ـ رولند ترى كيف كانَ أول يومِ لك ؟! .
ــــــــ
وفي قصرِ ماليان ..

توقفت تلكَ السيارة السوداء أمام بوابة القصر لتعلنَ عن قدومِ سيدِه , خرجَ من مقعد السائق وتقدم للدخول , وأول ما رأته عيناه هوَ شيمون الذي كانَ يقفُ منتظراً إياه تجاوزه وقالَ له .
ـ لقد دعاني عميّ لتناولِ العشاء لذا تأخرت إلى هذا الوقت .
علمَ كبير الخدم سببَ تأخر سيده فاطمأن قلبه وصارَ يمشيّ خلفه توقفَ ذلك الشاب فجأة وهو ينظرُ بحدقةِ عينه إلى ذلك الشخص اتسعت عينُ شيمون وهو ينظرُ لنفسِ الشيء الذي كانَ ينظرُ له ميلان فارتبكَ كثيراً .
ظهرت على محيا ميلان الغضب وهو يرى رولند نائماً على وضعية الجلوس فوقَ إحدى الدرجات .
سارعَ شيمون بالوقفَ أمامَ سيده وقالَ له باعتذار كبير .
ـ أرجوك سامحه على ذلك ...! فهو لم ينم منذُ يومين وربما أكثر .
حدجه ميلان بنظراتِ ساخطة وقالَ له وهو يحتفظُ بهدوء .
ـ حتى وإن يكن فكيفَ بأحدِ خدمي أن يكونُ بهذا الشكل المثير للشفقة وفي أول يوم له !! .
تحدث شيمون بهدوء وهو ينظرُ لوجه ذلك الشاب النائم بتعب والذي بدا ساكناً ولم يعلم بما يجريّ نحوه .
ـ لقد قلتُ له بأن يذهب ليستريح لكنّه رفض ذلك وقالَ أنّه يجبُ عليه أن ينتظر بما أنّه أصبحَ خادمك الخاص .
قطبَ ميلان حاجبيه عندما سمعَ آخر كملة التفت بكاملِ جسده نحو شيمون وقالَ له بسخرية ممزوجة ببعضِ الغضب .
ـ إذاً لقد قررت هذا مع أنّي رفضتُ ذلك .
انتبه شيمون لجملته فوضعَ يده على فمه بعدَ أن تداركَ ما قاله .
تبدلت ملامح ميلان للهدوء فجأة مما أثارَ استغراب شيمون فقد ظنّ بأنّه سيغضبُ ويثورُ من ذلك ولكن بدلاً من ذلك اتجه نحو ذلك النائم .. جلسَ على ركبتيه بالقربَ منه وأخذً ينظرُ لوجه النائم بسكينة فقد كان يستندَ بأحد شقه نحو الجدار الذي يحيطُ بدرجات القصر الصغيرة وكأنما كانَ ينتظرُ أحدهم

وضعَ يده على شعرِ رولند الأسود وهمسَ لنفسه مع ابتسامة خبيثة ظهرت على شفتيه وهو يتأمل عينيه المغمضتين.
ـ لما لا ! ربما سيكونُ ذلك ممتعاً , سأجعله يندم لأنّه قبل ذلك ! .




انتهى الفصل الرابع ..