الحلقة الثانية: ذكريات علاء ج1/ الضياع
عندما اشتعلت ألسنة النيران في كل مكان من مدينة شمس ملتهمة الأخضر واليابس، لوضع حد لمقاومة نور الدين ورجاله.. كان علاء يقضي معظم وقت فراغه في غرفته وهو يفكر ويخطط لايجاد طريقة، يتمكن من خلالها تقديم المساعدة لوالده، غير الاعتناء بأخيه الصغير عندما تغيب أمه عن البيت، فرغم ما كررته أمه على مسامعه مرارا من أن مهمته تلك لا تقل أهمية عن دور والده، إلا أنه ما كان ليقتنع بذلك أبدا.. كان يود لو تمكن من خوض معركة حقيقية يثبت فيها لوالديه أنه أصبح رجلا شجاعا يعتمد عليه..
حتى جاء ذلك اليوم الذي سمع فيه نداء أمه عليه وعلى أخته هناء، فلبى نداءها بسرعة، وقد ترقرقت عيناه بالدموع، فهل نسيت أمه أن أخته قد قتلها أولئك الأوغاد!! لكنه أخفى دموعه بسرعة وقال:
- هل تناديني يا أماه!! إنني هنا في غرفتي، وأخي بهاء ما زال نائما، أما هناء فقد....
واختنقت الكلمات في حلقه؛ فبدا لأسماء أن أعصابها لم تعد تحتمل المزيد ، فعانقت ابنها بحرارة وهي تحاول كبت مشاعرها وإخفاء دموعها وتتصنع الصلابة بقولها:
- لا عليك يا بني، هيا فقد حان وقت الرحيل..
فرد علاء بقلق، وكأنه كان يخشى سماع هذا القرار:
- ألن نبقى هنا يا أمي ندافع عن منزلنا ومدينتنا !
فقاطعته الأم بحزم:
- اذهب واحضر أخفّ ما يمكنك حمله، ولا تتأخر فسنرحل بعد قليل..
التفت علاء إلى والده، متجاهلا ما كان قد سمعه من حوار بينه وبين والدته:
- سترحل معنا يا أبي؟!
لم تتمالك اسماء نفسها فذهبت قائلة:
- سأوقظ بهاء وأعد الحاجيات..
أما نور الدين فقد حاول جاهدا حبس دمعة ساخنة، كاد ابنه أن يلاحظها:
- ستذهب مع أمك وأخيك؛ أما أنا فلديّ بعض الأعمال هنا وعلي تسويتها مع بعض الرفاق..
فقاطعه علاء بلهفة:
- سأبقى معك يا أبي، صدقني سأكون عونا كبيرا لكم..
ربّت الأب على كتفه قائلا:
- كلا يا بني، يجب أن تذهب مع أمك وأخيك وتكون بجانبهما لتحميهما، وسيكون لديك الكثير من الواجبات والأولويات، عليك القيام بها..
ثم أمسك بكتفيه بقوة وعطف في آن واحد:
- اسمعني جيدا يابني، أرجو أن تفهم ما سأقوله لك الآن، فربما لن تتاح لي فرصة الحديث معك بعد اليوم، فانت ابني الأكبر وانني أثق بك وأعتمد عليك بعد الله عز وجل..
خفق قلب علاء بشدة رغم صغر سنه، إلا أنه حاول أن يبدو بمظهر يلائم المسؤولية الملقاة على عاتقه، فأجاب بحماسة:
- أعدك يا أبي بأنني سأفهم كل كلمة تقولها وأحفظها عن ظهر قلب، وسأكون عند حسن ظنك بي إن شاء الله فلا تقلق بهذا الشأن..
ابتسم الأب بارتياح عميق، وهو يطبق جفنيه كمن يشاهد حلما جميلا سره:
- كنت أحلم دائما أن أراك رجلا عالما يتحلى بالحكمة، ويسعى لإعلاء راية الإسلام يا علاء..
وصمت برهة قبل أن يقول:
- أي بني.. لقد ابتعدت أمتنا عن دينها، فتفككت وانشقت صفوفها؛ وسلط الله علينا من لايقيم شرع الله فينا، وستكون فتن كقطع الليل المظلم ، القابض على دينه كالقابض على الجمر، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق عليه أفضل الصلاة والسلام..
التقط الأب أنفاسه قبل أن يتابع:
- قد لا تفهم ما أقوله الآن يابني، ولكنني أريدك أن تذكر دوما أن والديك اجتهدا لينشآك نشأة اسلامية حقة، سميناك علاء، وكلنا أمل أن تسير على درب القائد العظيم، الولي التقي "العلاء ابن الحضرمي".. وإنني اسأل الله سبحانه أن يوفقك لما يحبه ويرضاه، ويحميك من كل سوء.. فعليك بالدعاء يا بني، وتذكر ما علمتك اياه دوما...
فأسرع علاء - يريه منه خيرا يطمئن قلبه- وهو يردد ما حفظه عن ظهر قلب: ( وجعلت قرة عيني بالصلاة) ..
فتهلل وجه الأب بشرا، وطبع على جبين ابنه قبلة حانية، وهو يضمه إليه ضمة بثها مشاعره وأحاسيسه، قبل أن يلتفت إلى أسماء التي وقفت حاملة طفلها الصغير، غارقة في دموعها فما عادت تقدر على حبسها، فاتجه نحوها في صمت حزين يكبت من خلاله أقوى مشاعر الحب و الرحمة في قلبه.. وألقى نظرة أخيرة على ابنه الذي لم يتجاوز العامين فقبّله وأشاح بوجهه بعيدا خشية أن تلمح زوجته دموعا عجز عن حبسها.. مضت لحظات عصيبة.. وأخيرا تكلم نور الدين بصعوبة وهو يحمل حقيبته:
- استودعكم الله الذي لاتضيع ودائعه..
ثم التقط أنفاسه المتلاحقة قبل أن يقول:
- لقاؤنا في الجنة إن شاء الله..
و مضى خارجا..
بذلت أسماء قصارى جهدها لتظهر تجلدها للصعاب.. فكفكفت دموعها والتفتت إلى علاء:
- هيا يابني حان وقت الرحيل..
***
مضى أسبوع على ابتعاد جموع الراحلين عن مدينتهم, وتخبطهم في صحراء شاسعة بعد أن حيل بينهم وبين عبور منطقة الرمال، إحدى المناطق الإسلامية المجاورة، بحجة عدم صلاحية رقع التجوال الجلدية التي بحوزتهم..
وهبت العاصفة، فتخبطوا على غير هدى.. ليجد علاء نفسه وحيدا شريدا، لايدري أين هو من هذا العالم الفسيح..
فاصل
"رقعة التجوال الجلدية"، ضرورية للتنقل بين المناطق في عالم مدرسة الفروسية، وهي تقابل جواز السفر في عالمنا الحقيقي..
عدنا
استيقظ علاء فجأة دون أن يدري ما حدث له خلال العاصفة، ليجد نفسه نائما على فراش وثير، فأزاح الغطاء عنه ونهض ثم وقف أمام نافذة زجاجية يتأمل بدرا منيرا وسط ليل بهيم، ملأ رئتيه من نسمة باردة تسللت من شق في تلك النافذة، واجتهد في محاولة يائسة لمعرفة مايدور حوله، فاتجه نحو باب الغرفة وفتحه ليجد نفسه أمام شيخ كبير يغط في نومه على أريكة، عفا عليها الزمان، فأدرك في لحظة ما يعجز عن فهمه الكبار، وأخذ يتأمل المكان لفهم المزيد.. حتى تقلب الشيخ على أريكته أخيرا، وكأنه شعر بما يدور حوله، ففتح عينيه وسط ارتباك علاء الذي تلعثم قائلا:
- اعتذر عن الإزعاج أيها الجد..
فطمأنه الشيخ بابتسامة هادئة:
- الحمد لله على سلامتك يابني، لقد وجدتك ملقى على قارعة الطريق اثناء عودتي من خارج البلدة..
ثم نهض مستدركا:
- لا عليك، ستخبرني بقصتك فيما بعد، أما الآن فاعتقد أنك بحاجة إلى طعام جيد..
و ابتسم معرفا بنفسه ليدخل جوا من الألفة إلى المكان:
- جدك سعيد بمثابة والدك، وبما أن الفجر سيطلع بعد قليل فلا بأس من أن نتناول طعام الإفطار الآن معا..
وبدأ بإعداد مائدة حاول تنسيقها بعناية، وهو يعرّف بأصنافها المختلفة بحركات تمثيلية يدخل بها البهجة على قلب ضيفه الصغير:
- جبنة جدك سعيد الشهية، يشتهي الجميع تذوقها وهي كلها لك.. وهذه الزبدة البيضاء الطازجة لن تجد أطيب منها في المنطقة بأسرها..
قالها وهو يضحك بمرح:
- هذا رأيي الخاص بالطبع..
ونهض باتجاه كيس من القماش، معلق فوق طبق حوى كمية من الماء المكدر، تناوله وفتحه ليسكب ما فيه بطبق أمامه قائلا:
- وهاهي اللبنة الطازجة قد أصبحت جاهزة، من أجل...
ثم انتبه فجأة، وابتسم ملتفتا الى علاء:
- عفوا لم اسألك عن اسمك بعد يا بني؟
وبعد أن أخبره علاء باسمه الأول، تابع سعيد استعراضه مبتهجا:
- لبنة طازجة جُهّزَت خصيصا ليفتتحها علاء..
ثم قال بتمعن:
- عـــلاء..اسم جميل جدا وعظيم أيضا، ومن يحمله لا شك أنه سيصبح عظيما باذن الله..
وغمز علاء بعينه مشجعا:
- أليس كذلك يا علاء؟
أومأ علاء بابتسامة مقتضبة دون أن ينبس ببنت شفة. وأخيرا وضع سعيد على المائدة كوبين صب فيهما اللبن الطازج، قائلا:
- وهذا خير الطعام كما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم فاللهم بارك لنا فيه وزدنا منه..
وجفف يديه بمنديل وهو يشير إلى علاء:
- تفضل إلى سفرة جدك سعيد الغنية ولا تضيع الفرصة..
وأخيرا تكلم علاء الذي كان يتابعه بابتسامة صامته:
- جزاك الله خيرا يا عمي..
وتناول كوب اللبن من يد سعيد - رغم عدم رغبته في تناول أي شيء لولا شعوره بالحرج من هذا الشيخ الطيب - ليبدآ الطعام معا بالدعاء:
- بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وقنا عذاب النار..
تنهد الشيخ تنهيدة طويلة بعد أن استمع لقصة علاء:
- هكذا إذن.. إنا لله وإنا إليه راجعون..
ثم زفر بأسى:
- هذه هي حال المسلمين اليوم؛ لايعتبرون بما أصابهم وكأن الأمر لايعنيهم..
ثم صمت قليلا تعتصره مرارة الألم، قبل أن يتابع:
- ليست مدينتك المقصودة وحدها يا بني.. انها البداية فقط!!
ثم نظر إلى علاء الذي يتابعه بصمت وشرود:
- أتعرف قصة ذلك المثل.. ألا إني أكلت يوم أكل الثور الابيض؟
أومأ علاء رأسه بالإيجاب:
- سمعتها من والدي..
ومالبثت أن تدحرجت دمعة على خده، لكنه استطاع إخفاءها بسرعة متسائلا:
- أتعلم يا جدي أين يمكنني أن أجد أمي وأخي؟
حاول سعيد أن يبث روح الأمل في نفس علاء مشجعا:
- سنرى اليوم إن شاء الله ما الذي بإمكاننا فعله..
ثم أطرق مفكرا قبل أن يقول:
- من عادتي أن أخرج مع القطيع بعد صلاة الفجر، لذا دعنا نرى أهل المسجد أولا؛ فقد يكون لدى أحدهم خبر ما..
عندها تهلل وجه علاء بشرا بعد أن أشرق بريق أمل في نفسه، فهتف مستبشرا:
- لا أعرف كيف أشكرك يا جدي، جزاك الله خيرا..
فابتسم سعيد وقد سره رؤية علاء مبتهجا:
- لم أفعل شيئا حتى الآن، ولندع الله أن يوفقنا في ذلك..
انتبه علاء للمرة الأولى إلى ثغاء الخراف خارج المنزل، وقدر أنهم في حظيرة قريبة جدا من نافذة الغرفة التي يجلس فيها مع الجد سعيد، إضافة إلى أصوات الديكة التي تعالت بالصياح، وما لبث أن صدح صوت أذان الفجر ليغمر النفوس بالسكينة والأمان، والذي بدا أنه انطلق من مكان بعيد ما كان لِيُسمَع منه لولا سكون الليل..
و بعد صلاة الفجر؛ تحلق المصلون حول سعيد الذي عرفهم بعلاء لعله يجد بينهم من يساعده. بدا من الواضح جدا أنهم يعرفون بعضهم جيدا، فعددهم قليل بالكاد يتم الصف الأول، ومن النادر أن ينضم إليهم زائر جديد، وبعد أن استمعوا لقصة علاء، قال مصطفى– أحد الرجال الذين يثق بهم سعيد كثيرا:
- لقد علمت أن جاري قد استقبل قريبا له بالأمس من الراحلين من منطقة المروج الخضراء..
خفق قلب علاء بشدة متلهفا لسماع الخبر، وتهلل وجه سعيد :
- بشرك الله بالخير يا رجل، هات ما لديك..
فقال مصطفى مهدئا:
- لست متأكدا تماما من كونه من المجموعة نفسها، التي خرج معها علاء، فأمهلني حتى صلاة العشاء..
لكن سعيد قاطعه بسرعة:
- ألا يمكنك أن تأخذنا إليه الآن..
ألجمت الدهشة مصطفى وبدا عليه الإحراج، لكن سعيد ألح عليه مدركا سبب تردده:
- أعلم أن جارك لن يستيقظ قبل موعد عمله، هدانا الله وإياه، لكنه رجل طيب وهذه حالة طارئة، فهذا الفتى يريد الاطمئنان على أمه..
بدا الإحراج والتردد واضحا على وجه مصطفى أكثر، وأدرك علاء ذلك، فهز الجد سعيد من كمه:
- لا بأس يا جدي، سننتظر حتى صلاة العشاء إن شاء الله..
قضى علاء وقتا طويلا بصحبة الجد سعيد أثناء خروجه لرعي الأغنام، فكانت تجربة جديدة في حياته لم يخطر بباله أن يخوضها يوما؛ بعد أن نشأ في جو المدينة واعتاد حياتها.. ساروا مسافة طويلة مبتعدين عن البلدة الصغيرة، حتى تجاوزوا لافتة صغيرة على مشارفها، كتب عليها ( بلدة زهر الرمال تستودعكم السلامة)، ابتسم سعيد- وهو يتابع اهتمام علاء باللوحة:
- زهر الرمال، اسم بلدتنا.. يبدو جميلا أليس كذلك؟
اومأ علاء:
- بلى، ولكنه غريب بعض الشيء، فهل ينمو الزهر وسط الرمال؟
ضحك سعيد لهذه الملاحظة الطريفة، قبل أن يجيب:
- ولماذا فسرتها على هذا النحو يا علاء؟
اجاب علاء مستغربا:
- وهل لها تفسير آخر؟
فقال سعيد ينتهز الفرصة موضحا:
- بل لها عدة تفاسير أخرى قد لا أعرفها جميعا..
ونظر إلى علاء- الذي بدت علامات الدهشة واضحة على وجهه - يستطلع اثر كلماته عليه، قبل أن يتابع:
- هذه مشكلتنا مع الأسف، نحمل كل ما نراه أو نسمعه على المعنى الذي نراه نحن فقط، في حين أن لكل واحد منا رؤيته الخاصة والتي تحددها عوامل مختلفة بناء على شخصيته، وقد يصف اثنان المشهد نفسه بكلمات تبدو متناقضة للسامع للوهلة الأولى، فيبدأ الخلاف المؤدي للشجار والتنافر، ولو عقلنا الحقيقة لسلمنا من مشاكل كثيرة نحن في غنى عنها..
كان علاء يحاول جاهدا استيعاب كلمات الجد سعيد التي بدت غريبة له بعض الشيء، ولم يتركه سعيد لأفكاره كثيرا، فقد أتبع كلامه بمثال توضيحي:
- يقال أن اسم بلدتنا جاء لأنها تتميز بكثرة الأزهار فيها ولكونها تقع على مقربة من منطقة الرمال، فقد أطلق عليها زهر الرمال، وهناك من يقول بأن أزهارها كانت تتميز فيما مضى باللون الأصفر الباهت؛ حتى يظن من يراها لأول وهلة أنها أرض رمال، فأطلقوا عليها هذا الاسم، وهناك روايات أخرى وكلها تحتمل الصواب، بل لا مانع من أن تكون كلها صحيحة في الوقت نفسه!
ثم التفت إلى علاء مبتسما:
- ومن يدري فربما كان بها نوع من الزهر ينمو وسط الرمال..
ابتسم علاء وقد فهم المغزى من ذلك، وأدرك بأنه تعلم درسا مفيدا وهاما جدا كان يجهله، بل ومسليا أيضا، فلم يشعر بطول المسافة التي قطعها خاصة وهو يتأمل جمال الطبيعة من حوله..
كانت الشمس تعلن استعدادها للمغيب، وهي أشبه ما تكون ببرتقالة عملاقة تربعت وحدها فوق التلال الصفراء، عندما أطلق سعيد إشارة العودة بلحنه الخاص والمميز، فعلا صوت نباح الكلب يعينه على أداء مهمته وهو يقفز من جهة إلى أخرى يطمئن على سلامة القطيع واكتمال عدده، والذي بدا كقطن أبيض منفوش يحاول الهرب من حاصده، في حين تناغم نباح الكلب وثغاء الأغنام مع صوت الأجراس المعلقة في رقاب الخراف الصغيرة، لتؤلف معزوفة خاصة بدت مألوفة لكل الرعاة.. ورغم ذلك الجمال الخلاب إلا أن القلق بدأ يساور علاء؛ فهو على موعد مع أخبار تهمه كثيرا هذه الليلة، ولم يفت سعيد ملاحظة ذلك إذ كان هو الآخر قلق البال بشأنه، ولكن هذا لم يمنعه من الإشارة إلى بديع صنع الله في خلقه، فهتف مسبحا:
- سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وبحمده ولا قوة إلا بالله..
وردد بصوته الندي:
(وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن ءاناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى)
ثم نظر إلى علاء مشجعا:
- اصبر.. فلم يبق إلا القليل ويأتيك الخبر اليقين بإذن الله..
فشكره علاء ممتنا:
- لا أدري كيف أشكرك يا جدي، جزاك الله خيرا على اهتمامك هذا..
- لا تقل هذا يا بني، الم أخبرك بأنني في مقام والدك.. لقد كان ابني الأكبر في مثل سنك عندما تعرض لحادث أودى بحياته..
توقف علاء لحظة قبل أن يتابع المسير وقد بدا التأثر على وجهه سريعا، لولا أن سعيد تابع بمرح:
- الحمد لله دائما، فهو إن أخذ فقد أعطى ، فلله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى..
ثم التفت إلى علاء الذي ما زال متأثرا بما سمع:
- هذه حال الدنيا يا بني، وهذه حقيقتها، دار ابتلاء واختبار، والظفر فيها لمن صبر وأحسن العمل..
وابتسم متابعا وكأنه بصدد قصة سمعها ليرويها:
- لقد مضى على ذلك أكثر من خمسين سنة، وقد أكرمني الله بعدها بالبنين والبنات، ورغم تفرقهم بالمناطق والمدن المختلفة، إلا انني بحمد الله أفرح بزيارتهم في العطل والأعياد..
ثم توقف مشيرا بيده الى مكان بعيد:
- أترى ذلك السور يا بني، خلفه يقبع قبر زوجتي التي توفاها الله قبل خمس سنوات..
ودمعت عيناه قليلا:
- رحمها الله وأسكنها فسيح جناته، ما زلت أذكرها بالدعاء في كل صلاة أصليها، فقد كانت نعم الزوجة الصالحة والأم المربية الحكيمة، اسمها راضية وكانت تمثله بمعنى الكلمة..
وابتسم بمرح وهو يردد:
- راضية وسعيد.. الرضا يجلب السعادة، وهذا سر العلاقة الوطيدة بيننا بفضل الله..
وقفزت إلى عينيه نظرات حالمة يرى من خلالها صورا مشرقة من حياته السعيدة مع راضية، ثم تنهد:
- رحمها الله.. هذه هي الدنيا وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور..
كان سعيد يحدث علاء إشغالا لفكره عن الهموم و تبصيرا له بحال الدنيا، وتعزيزا لمفهوم الرضا في نفسه؛ حتى لا تصدمه نوائب الدهر، وقد كان له ما أراد بنسبة كبيرة..
وبعد أن أديا صلاة المغرب في الطريق، واقتربا من المنزل، لاح لهما شبح رجلين يقفان عند الباب، وما لبثا أن سمعا صوت مصطفى يهرول نحوهما صائحا:
- نحن بانتظارك منذ أكثر من ساعة، لقد أبى السيد مروان إلا المجيء بنفسه ليرى علاء..
ولم يكد علاء يلمح مروان حتى قفز نحوه هاتفا بسعادة:
- أهلا بك يا عمي، ما هي أخبار أمي وأخي؟
ثم شعر بالخجل من نفسه، وقد انتبه إلى عكازه الخشبي الذي حمله مرتكزا عليه اثر كسر بدا واضحا في رجله، فاستدرك متسائلا:
- سلامتك يا عمي، لا بأس عليك طهور إن شاء الله، ما الذي أصابك؟؟
فابتسم سعيد وهو يقاطعه بلطف:
- فلندخل أولا..
وبعد أن أغلق باب الحظيرة واطمأن على حيواناته، تحلق الأربعة حول ضوء السراج في حجرة المنزل المطلة على الواجهة..
بدا الأسف واضحا على وجه مروان؛ ليعكس خيبة أمل على قسمات علاء، لولا أنه صبر نفسه بالاستماع إلى بقية حديث مروان لعله يجد لديه ما يرشده إلى أمه. حاول مروان بث الطمأنينة في نفس علاء:
- الحمد لله على سلامتك أولا يا بني، لقد قلقنا عليك كثيرا، ولكن الله لطف بك..
وقلب نظره بين مصطفى وسعيد قائلا:
- حقا، بصلاح الآباء يحفظ الله الأبناء، من يعرف والديّ هذا الفتى لا يعجب من حفظ الله له!
كان لجملته هذه أكبر الأثر في تطيب نفس علاء، ثم تنهد قبل أن يتابع:
- بعد أن منعنا من عبور منطقة الرمال، وبعد أن هدأت العاصفة التي فرقت الكثيرين منا، وأصابت معظمنا بضرر..
قالها مستطردا وهو يشير إلى ساقه:
- الحمد لله إصابتي خفيفة نسبة إلى غيري..
ثم تابع:
- كانت هناك فرصة لتسهيل استحداث رقع عبور خاصة، لمن لهم أقرباء خارج المروج الخضراء، ريثما يعاد النظر في رقع التجوال الجلدية خاصتنا، وقد كنتُ منهم إذ نزلنا في ضيافة أقرباء زوجتي، في حين قرر معظم الراحلين العودة من حيث أتوا، وليكن ما يكون بدلا من التخبط بين المناطق المختلفة على غير هدى، معرضين أنفسهم للعواصف والأخطار، خاصة وأنهم لا أقرباء لهم..
وصمت قليلا قبل أن يقول:
- وقد أصرت امك على العودة معهم..
شعر علاء ببعض الاطمئنان بعد أن سمع خبرا عن أمه، ثم قال بقوة وعزم:
- سألحق بهم إذن، وأعود من حيث أتيت..
تبادل مروان نظرات ذات مغزى مع مصطفى وسعيد، قبل أن يقول الأخير:
- أنت فتى شجاع يا علاء، ولكن شتان ما بين التهور والشجاعة، لقد أحكم الأعداء سيطرتهم على حدود المروج الخضراء، ولم يعد بالامكان العودة الآن!
لم يتمالك علاء نفسه وقد أدرك ما ترمي إليه هذه الكلمات، فقاطعه وهو ينهض من مكانه صارخا:
- وماذا عن أمي وأخي!! ما الذي تعنيه يا جدي!! هل سأقضي حياتي وحيدا بعيدا عن أمي وأبي وبلدي؟!!
***
ما الذي سيحل بعلاء بعد ذلك؟ وهل سيتمكن من مقابلة أمه واخيه؟
وكيف سيتصرف الجد سعيد في هذه الحالة؟
هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة إن شاء الله
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم