الحلقة التاسعة والعشرون: انتصار
بصعوبة تكلمت انتصار وهي تشهق شهيقا كاد أن يخنقها:
- آسفة لا شيء يستحق القلق.. اطمئني..
فاكتفت ميمونة بالصمت وهي تربت على كتف انتصار بحنان، وقد أدركت بحدسها أن للأسطورة علاقة بالأمر، وبعد أن هدأت انتصار قليلا، حسمت ميمونة أمرها وتجاوزت ترددها لتسألها مباشرة:
- هلا أخبرتني عن نفسك يا انتصار؟
شعرت انتصار بأنه قد آن الأوان لتتحدث عن نفسها، فمن غير المعقول أن تبقى صامتة هكذا وهي في ضيافة هذه العائلة الطيبة إلى الأبد، وأخيرا قالت:
- ربما لم أشعر بذلك من قبل ولكنني أستطيع القول بأنني نشأت في بيئة مترفة جدا، لم أكن أعرف فيها معنى المسؤولية، رغم أن أمي توفيت وأنا في سن الرابعة، فقد تولى أبي رعايتي وخصص لي الكثير من الخدم الذين يهتمون بشؤوني الخاصة لا سيما وأنني ابنته الوحيدة، إضافة إلى أنه لم ينجب من زوجته الأخرى التي جاءت لمنزلنا بعد عامين من وفاة أمي، والتي انشغلت بحياتها الخاصة منذ البداية فلم تكن العلاقة بيننا أكثر من اثنتين تعيشان في المنزل نفسه ولا يجمعهما إلا مائدة الطعام، ولم تكن تتدخل بشؤوني أبدا وربما كان هذا أفضل شيء فعلته بالنسبة لي..
نشأت بعيدة عن أترابي فقد كانت لي حياتي الخاصة أيضا و التي أشعرتني بالعزلة، فالدروس أتلقاها وحدي في المنزل على أيدي المعلمات اللاتي يختارهن لي أبي، ولم أكن أخرج إلا بصحبة مرافقات خاصات يعتنين بي، فقد كان أبي يخشى علي كثيرا حتى أنني لم أعلم بوجود خالة لي إلا بعد أن تجاوزت سن العاشرة، فلم يكن ليسمح لي بزيارة أحد، ولم أستطع تفسير ذلك إلا بقلقه الزائد عليّ ولا أدري لماذا، لكنني لم أكن أجرؤ على التفكير في مخالفة أمره، ولا حتى أن أطلب منه الجلوس معي أو مرافقتي في نزهة، فهو مشغول دائما وذو شخصية صارمة حازمة، ويكفيني منه تعامله الطيب معي..
وصمتت انتصار قليلا فيما كانت ميمونة تتابعها باهتمام، وتحثها بعينيها على متابعة الكلام.. تنهدت انتصار وإمارات التأثر تعلو قسائم وجهها مما يشير إلى أنها قد اقتربت من الحديث عن الجزء الأخطر في حياتها:
- لقد كانت الأمور في حياتي تسير بشكل رتيب و ممل أحيانا، حتى جاء ذلك اليوم الذي طلبت فيه خالتي الوحيدة من أبي السماح لي بزيارتها والمبيت عندها فهي تقيم وحدها في منزلها بعد وفاة زوجها الذي لم تنجب منه، وبعد إلحاح شديد و ضمانات كثيرة تعهدت فيها خالتي بأن كل شيء سيكون على ما يرام، سمح لي أبي الذهاب إليها، وكنت متشوقة لمعرفة أية معلومات عن أمي وعائلتها، والتي لم أكن أعرف عنها شيئا، لقد شعرت بحنان الأم المتمثل في خالتي لأول مرة، حتى أنني ظننتها لوهلة انها أمي الحقيقية التي عشت بعيدة عنها طوال تسع سنوات مضت، فقد كنت وقتها في الثالثة عشرة من عمري، وقد توالت زياراتي بعدها لخالتي بحذر؛ حتى لا أغضب أبي فيمنعني من زياراتها نهائيا، فقد تعلمت منها الكثير حتى أنها علمتني الصلاة لأول مرة، وأهدتني مصحفا أقرأ منه، وكانت خالتي حكيمة جدا فقد كانت هي أحرص مني على أن لا يحول أبي بيني وبين زيارتها، حتى أنني حينما حاولت ارتداء الحجاب تأسيا بها، منعتني معللة بأنه لم يحن الوقت المناسب لذلك بعد، وبالفعل لم يلحظ أبي أي تغير في تصرفاتي أو في تعاملي معه مما أتاح لي فرصة للتقرب من خالتي أكثر، فشعرت بأن لأسرة أمي ماضٍ عريقٍ يلفه بعض الغموض إلا أنني لم أفكر بالسؤال عنه مطلقا مكتفية بما تحدثني به خالتي..
وصمتت انتصار مرة أخرى في حين أخذت الدموع تفيض من عينيها مجددا، وهي تحتضن يدها اليمنى بيدها اليسرى وتضمها إلى صدرها، قبل أن تقول بحزن:
- ماتت خالتي الحبيبة بعد أربع سنوات عوضتني فيها عن أمي، فكان موتها صدمة كبيرة لي رغم أنها بذلت جهدا كبيرا لمواساتي وهي على فراش الموت، كانت تحاول إيصال رسالة لي وهي تضع في أصبعي خاتمها الغريب الذي طالما أثار فضولي، مرددة على أسماعي عبارتها التي لا زالت تطن في أذني "هذه أمانة فحافظي عليها، فقد يكون مصير العالم مرهون به"، ولم ألق بالا وقتها لذلك الكلام أمام فاجعتي الكبيرة بموتها، غير أن الخاتم غدا أعز ما أملك ما دام عزيزا عليها إلى ذلك الحد، فهو جزء منها، والصلة التي تربطني بها..
كانت الدموع تسيل بغزارة من عيني ميمونة التي حاولت جاهدة أن تتجلد أمام انتصار وهي تنصت إليها، حتى لا تثير أحزانها أكثر، لكن انتصار اصطنعت ابتسامة صغيرة وهي تقول:
- هوني عليك يا عزيزتي، لم يأت صلب الموضوع بعد!
عادت سارة إلى المنزل مسرعة فقد كان لديها الكثير من الواجبات لذلك اليوم، والأهم من ذلك، نسخة الأسطورة التي ناولتها إياها سمر- فقد تغيبت أمس عن درس جويرية بسبب الم في معدتها- وأخذت تراجع في عقلها واجباتها المنزلية وهي تتمنى أن تعفيها أمها من بعض الأعمال، فقد كانت متلهفة للأسطورة التي لن تستطيع قراءتها قبل أن تنتهي هي وسمية من غسل الملاءات، و بعد أن أدت صلاة الظهر بدأت بحل واجباتها المدرسية دون أدنى استراحة فعليها أن تنجز كل ذلك بسرعة قبل العشاء، وبينما كانت منهمكة في حل احد المسائل الحسابية، بلغها صوت صراخ سوسن وبكائها وهي تتشاجر مع محسن كالعادة حول أحد اللعب، فحاولت تجاهلها لتستطيع التركيز في المسألة، لكن صوت أمها وهي تناديها جعلها تترك كل شيء:
- نعم يا أمي، هل تريدين شيئا؟
فقالت لها وهي مشغولة بغسل و تقطيع بعض الخضار في المطبخ:
- اهتمي بسوسن ريثما أنتهي، أو اشغليها ببعض الألعاب و راجعي مع محسن كتابة الحروف..
بدا التذمر على وجه سارة رغم محاولتها كظم غيظها:
- ولماذا لا تهتم بهم سمية، فلدي الكثير من الواجبات لهذا اليوم!
رمقتها أمها بنظرات مؤنبة:
- لدى سمية الكثير من أعمال الحياكة وهي مشغولة بها، كوني مهذبة!
فاعتذرت سارة بسرعة:
- آسفة يا أمي..
وقفزت ببالها فكرة سريعة تجعلها تحقق رغبتها ورغبة أمها في وقت واحد، فنادت سوسن قائلة:
- لدي مفاجأة.. فسأحكي لك قصة جميلة..
لكن سوسن ردت باكية:
- أريد اللعبة أريدها ..
فالتفتت سارة إلى محسن الذي بدا متشبثا بلعبة على شكل حصان إمعانا في إغاظة سوسن:
- أعطها إياها و سأحكي لك قصة جميلة..
فرد محسن بثبات:
- هذه لعبتي أنا!
فقالت سوسن:
- بل لعبتي أنا!!
فحاولت سارة إقناعها:
- لدي دمية جميلة أجمل من هذه اللعبة وستعجبك بالتأكيد..
فهتفت سوسن:
- الدمية المعطرة، أريدها أريدها!!
فرمى محسن الحصان من يده:
- و أنا أريد الدمية، أنت لا تسمحين لي بمسّها هذا ليس عدلا!
فقالت سوسن:
- الدمية للبنات وأنت ولد!!!!
فرد عليها محسن:
- والحصان للأولاد فلماذا تريدينه!
فقالت سوسن بحدة:
- لا، الكل يركب على الحصان!
فقاطعها محسن بشدة:
- الحصان للأولاد!!
تدخلت سارة:
- حسنا حسنا، عليك بكتابة الحروف أولا ثم سنلعب معا لعبة الدمية والحصان..
وبعد أن هدأت الأوضاع وهمت سارة بمتابعة حل واجباتها، فوجئت بسوسن تقول لها وقد استقرت الدمية المعطرة في يدها:
- ألن تحكي لي القصة الجميلة؟؟
وسرعان ما وجدت سارة نفسها في ورطة وهي تحاول أن تحكيها لها بطريقة تفهمها، في حين كانت هي متشوقة لمعرفة الأحداث بسرعة.. وكلما اندمجت مع القصة، تهزها سوسن من كمها:
- هيا قولي ماذا حدث، اقرئي بصوت عال..
وفي تلك الأثناء عاد حسان إلى المنزل محيياً:
- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كيف حالكم؟
فهبت سارة من مكانها:
- يا إلهي هذا يعني أن صلاة العصر قد قُضيت وأنا لم أنجز شيئا بعد!!
فاستوقفتها سوسن:
- ماذا حدث مع جوريا؟ اخبريني هيا!!
فناولت سارة النسخة لحسان، قائلة لها:
- سيكملها لك حسان، سأذهب لأصلي العصر، لقد تأخرت كثيرا ولم أنته من واجباتي بعد!!
ثم خاطبت حسان قبل أن تخرج من الغرفة:
- اعتن بالنسخة جيدا فهي ليست لي!
فناداها حسان وهو لم يفهم شيئا بعد:
- لحظة أنا متعب جدا ولدي الكثير من الواجبات أيضا!!
لكن سوسن لم تمهله إذ أخذت تشده من ملابسه قائلة:
- أخبرني ماذا حدث مع جوريا؟؟
فزفر حسان بضيق:
- ومن هي جوريا هذه!!
ومن لطف الله به أن سمع صوت أمه وهي تنادي سوسن:
- ألا تريدين الذهاب في العربة مع وسام ، سيشتري بعض الحاجيات من السوق!
فهتفت سوسن بفرح وهي تجري لترتدي حذاءها بسرعة:
- بلى بلى..
و لم تنس الأم أن تؤكد عليها قائلة:
- كوني مهذبة ولا داعي للشجار مع محسن!
ووجهت الكلام نفسه لمحسن، الذي استعد للصعود إلى العربة:
- وأنت يا محسن كن مطيعا ولا تعاند أخاك الكبير واعتن بسوسن..
وما إن تحركت العربة، حتى تنهد حسان بارتياح:
- رافقتكم السلامة..
***
لم تكد ميمونة تحدث أمها وأختها جويرية عما حدّثتها به انتصار في عجالة، حتى دخل عليهم الشيخ عبد الرحيم محيياً بعد عودته من الجامع إثر انقضاء صلاة العصر وجلوسه مع عدد من المصلين الذين كانوا ينتظرون فراغه من الصلاة، بين مستفت وسائل أو طالب للنصح والمشورة..
وبعد أن جلس مستندا إلى وسادة -أسرعت جويرية بإحضارها له- قال:
- لقد حدثني أحدهم قبل قليل بأن أخبارا بدأت تشيع بين الناس عن اختفاء ابنة تاجر الذهب المعروف فاخر شفيع، فقد بدأ رجاله يجوبون بحثا عنها في المدينة..
ورغم أن ميمونة توقعت أن تكون انتصار ابنة أحد الأثرياء المعروفين في المنطقة لكنها لم يخطر ببالها قط أن تكون ابنة التاجر فاخر شفيع الملقب برجل الذهب الأول، الرجل الأغنى في المنطقة، والذي ضرب به المثل في الغنى وقوة النفوذ، وقد قيل أنه الداعم الرئيس لأفكار نديم السامر والجدار الحامي له، ولم تكن دهشة جويرية بأقل منها، في حين أسرعت أمهما بالسؤال بلهجة لا تخلو من قلق:
- وماذا قلت له؟؟ قد لا تكون ابنة فاخر شفيع فهي لم تخبرنا باسم عائلتها حتى الآن!!
لكن الشيخ عبد الرحيم طمأنها بقوله:
- لقد عملت حسابا لهذا، فلم أشعره بشيء، حتى نتأكد من الفتاة بأنفسنا قبل أن نكون سببا في التغرير بها وتعريضها للخطر..
ولم تنتظر ميمونة أكثر إذ نهضت من مكانها قائلة:
- سأتأكد من انتصار بنفسي..
فاستوقفتها أمها منبهة:
- لا تضغطي عليها يا ابنتي، وكوني حذرة في كلامك..
فطمأنتها ميمونة باسمة:
- لا تقلقي يا أمي فأنت تعرفين ميمونة..
وبعد أن طرقت ميمونة الباب فتحته لتجد انتصار لا تزال بملابس الصلاة جالسة على السجادة باتجاه القبلة وعيونها مبللة بالدموع، وما إن شعرت انتصار بها؛ حتى نهضت من مكانها وهي ترد التحية عليها، وبدون مقدمات كثيرة لم تكلف ميمونة نفسها عناء التفكير في صياغتها قالت:
- بالمناسبة يا انتصار لم تخبريني عن اسم والدك؟
فرمقتها انتصار بنظرات توجس قبل أن تقول بتردد:
- هل جاء من يبحث عني؟؟
شعرت ميمونة بالحرج من تسرعها، لكن انتصار أنقذتها من ذلك بقولها:
- لا عليك يا صديقتي فلن أستطيع الهروب من أبي وعائلتي إلى الأبد، أنا ابنة تاجر الذهب فاخر شفيع..
ورغم خيبة الأمل التي ارتسمت على وجه ميمونة؛ لأنها كانت تتمنى سماع غير ذلك- لا سيما وأن صورة فاخر شفيع في ذهنها لم تكن محمودة- إلا أنها أخفت ذلك كله بابتسامة عريضة:
- ما شاء الله، والدك ذو شخصية مرموقة ونفوذ واسع..
ولم يخف على انتصار ملاحظة حقيقة ذلك الانطباع على وجه ميمونة فردت ببرود:
- شكرا لمجاملتك اللطيفة، وإن كنت متأكدة من أنك لا تودين أن يكون لك والد مثله، فأنا أغبطك فعلا على وجودك في ظل عائلة متدينة ووالدين يرعيانك ويحميانك، لقد أصبحت أحب أهل الدين كثيرا وليتني ولدتُ في بيت متمسك بدينه مطبقا لأحكامه..
أسرعت ميمونة تستدرك نفسها وهي تقول بلهجة جادة مقتنعة:
- لا تقولي هذا يا عزيزتي، فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين، و لكلٍ منا مهمته المختلفة في هذه الحياة، فيسخر الله له أسبابها المناسبة لتؤهله لها، فدوري غير دورك ولا شك أن بيئتك التي نشأتِ بها، والظروف التي تمرين بها، تدل على أن الله سيستعملك لأمر عظيم، وكلٌ ميسر لما خلق له..
فتهلل وجه انتصار فرحا:
- أتظنين ذلك حقا!! شكرا لك يا ميمونة لقد أزاحت كلماتك هذه عبئا ثقيلا عن كاهلي..
ثم ابتسمت وهي تحاول استعمال العبارات التي تسمعها تتردد كثيرا في هذا البيت:
- جزاك الله خيرا يا ميمونة.. جزاكم الله خيرا كثيرا وبارك فيكم..
لم تتوقع ميمونة أن تؤثر كلماتها إلى هذا الحد في نفس انتصار، فحمدت الله في سرها أن ألهمها ما فيه الخير، وكلمات أمها التي طالما سمعتها تتردد في أذنيها "أحسني اختيار كلماتك يا ابنتي فالكلمة الطيبة صدقة"، ودمعت عيناها وهي تشد على يدي انتصار:
- وجزاك الله خيرا أنت يا انتصار، فقد تعلمت منك الكثير..
***
كان حسان يحاول جاهدا لف الخيط حول الدائرة التي رسمها على ورقة، ليحسب نسبتها إلى طول القطر - كما طلب منهم المعلم نبراس- عندما فوجئ بمحسن يجذبه من يده وهو على وشك أن يصل بالخيط إلى النقطة التي ابتدأ منها لفه على الدائرة، فصرخ بغضب:
- لقد أفسدت عملي في اللحظة الأخيرة!!
فما كان من محسن إلا أن علا صوته بالبكاء وهو يجري خارج الغرفة، وما هي إلا لحظات حتى دخلت عليه سمية:
- ما الذي فعلته لمحسن!! لقد جاء يناديك إذ سيحين موعد الإفطار بعد قليل، ألم تسمع أبي وهو ينادي عليك؟
نهض حسان من مكانه:
- غريب لم أسمع شيئا، يبدو أنني غرقت تماما في هذه الدائرة!
وما إن جلس حول المائدة معتذرا عما بدر منه حتى ارتفع صوت أذان المغرب، وبعد أن تناول الجميع التمرات مرددين الدعاء، خرج وسام وحسان مع والدهم إلى الجامع القريب في حين أدت سارة وسمية صلاة المغرب مع أمهما جماعة في البيت، قبل أن يتابعوا طعامهم ويجتمع الشمل من جديد على مائدة الإفطار..
لاحظ حسان أن محسن لم يزل بمزاج معكر جراء صراخه عليه، مما أشعره ببعض الذنب فحاول أن يلطف الوضع بقوله:
- هل تعرف كيف تلف الخيط حول الدائرة يا محسن؟؟ إنه أمر متعب جدا لذلك لم انتبه إليك عندما ناديتني وكنت على وشك الانتهاء!!
فبادرت سوسن معقبة:
- أنا ألف الخيط أنا أعرف..
فخرج محسن عن صمته بسرعة ليستعيد الزمام قبل أن يفلت من يده وتصبح سوسن هي محور الكلام:
- هذا أمر سهل، سأريك كيف ألف الخيط بسرعة
وهم بالنهوض ليتبع القول بالعمل، لولا أن أمه التي تجلس بينه وبين سوسن، جذبته قائلة:
- بعد الإفطار، فأنت لم تأكل شيئا اليوم!
فقالت سوسن:
- وأنا لم آكل شيئا، أنا صائمة أيضا..
فرد عليها محسن:
- بل شربت الماء وهذا ليس صياما!!
فردت بحدة:
- أنا لم آكل.. وحتى أنت شربت الماء!
وقبل أن يضيف محسن كلمة أخرى في ذلك الجدال الذي لن ينتهي كالعادة، قال الأب قبل أن تجبرهما الأم على متابعة طعامهما بالقوة:
- أنتما الاثنان ممتازان ورائعان..
واستطرد وهو يلتفت نحو حسان:
- ما هو الواجب المطلوب منك؟
فأجاب حسان:
- طلب منا المعلم نبراس حساب نسبة طول المحيط إلى طول القطر في عشر دوائر مختلفة على الأقل، لإيجاد العدد الطبيعي 3.14، ومن ثم حل بعض المسائل على أساسها، وبما أنه سمح لنا بالتعاون فيها فقد تقاسمت مع أصيل الدوائر لكل واحد منا خمس، وكنت على وشك الانتهاء من الدائرة الأخيرة!!
فقال الأب حاملا كأس الماء بيده:
- بدلا من أن تضيع وقتك بلف الخيط على دائرة مرسومة، تستطيع لفها حول جسم اسطواني بسهولة أكبر، كهذا الكأس..
فهتف حسان بسعادة:
- فكرة رائعة ما شاء الله، جزاك الله خيرا يا أبي..
وهم أن يقفز بسرعة نحو غرفته ليحضر الخيط ويجرب لفه حول الكأس، لولا أنه تذكر ما حدث مع محسن قبل قليل فحاول ضبط نفسه وحماسته حتى ينتهي من الإفطار، وبعد لحظة صمت تساءلت سمية:
- ترى متى حسبوا هذه القيمة أول مرة؟؟
بادرت سارة بقولها:
- منذ زمن بعيد جدا على ما أعتقد!
فابتسم حسان:
- يعني منذ متى تقريبا، قبل كم سنة؟
فنظرت إليه سارة:
- وهل تعرف أنت؟؟
فأومأ حسان برأسه:
- لقد قرأت عنها اليوم، ونحن نبحث في مكتبة المدرسة، هيا من يخمن؟
أسرعت سوسن تجيب:
- منذ عشر سنوات..
فعلق محسن مستخفا بها:
- قالت سارة منذ زمن بعيد جدا فهل هذا زمن بعيد!!
سألته سوسن بتحد:
- فمتى إذن؟؟
فأجاب محسن بلهجة واثقة:
- ربما قبل عشرين سنة..
فضحك الأب وحسان وضحكت الأم و سارة وسمية، حتى وسام الذي كان يأكل بصمت انفرجت شفتاه عن ابتسامة صغيرة، قبل أن يقول الأب:
- كلٌ يقارن بنفسه..
فقال حسان الذي كان متحمسا للإجابة:
- هيا يا أبي خمن؟؟
فقال الأب:
- لا أدري ولكن لا أظنه يتعدى المائة عام!
فابتسم حسان و لم يقل شيئا ملتفتا إلى أمه:
- وأنت يا أمي؟
فقالت:
- ربما أوجدها العلماء المسلمون الأوائل، على زمن جابر بن حيان مثلا؟؟
فقالت سارة:
- هيا قل متى؟؟؟
فأجاب حسان بحماسة:
- تخيلوا أنها كانت معروفة قبل ميلاد سيدنا عيسى عليه السلام!!!
فعلت الدهشة الوجوه:
- سبحان الله!!!!
فتابع حسان:
- لقد حسبها أرخميدس..
فقالت سارة بفرح:
- أجل لقد قرأت عنه عندما كنت أبحث عن بعض المعلومات حول تخزين المياه، إنه عالم فذ ويقال أن الفضل يعود له في تصميم رافع المياه المستخدم، هذا بالإضافة إلى الكثير من الأعمال الأخرى، لكنني لم أكن أتوقع أنه عاش قبل ميلاد سيدنا عيسى عليه السلام..
فقال وسام بلهجة متشككة:
- و كيف حُفظت هذه العلوم من ذلك الزمن البعيد!!
ردت سارة:
- وهل هذه تحتاج إلى سؤال؟؟ تناقلها الناس بالتداول بينهم لكثرة حاجتهم إليها، فكيف تريدها أن تضيع؟؟
فهتف حسان:
- يا لك من عبقرية ما شاء الله، لم يخطر ببالي هذا التفكير من قبل..
فجأة وبدون سابق إنذار هتفت سوسن بحماسة:
- أنا أعرف قصة سيدنا عيسى عليه السلام.. أنا أعرفها، هل أحكيها لكم؟؟
فقال محسن:
- أنت مخطئة فأنت تعرفين قصة سيدنا موسى التي حكتها لنا سمية!
لكن سوسن أجابت بإصرار:
- بل أيضا أعرف قصة سيدنا عيسى وأمه اسمها السيدة مريم مثل اسم أمي، لقد حكتها لي سمية وأنت لم تكن معنا!
والتفتت إلى سمية:
- أليس كذلك؟؟
فابتسمت سمية:
- أجل يا عزيزتي..
فقال محسن بغضب:
- ولماذا لم تحكِها لي أيضا؟؟ هذا ليس عدلا!!
حاولت سمية ترضيته، فقالت:
- لقد ذهبت وقتها مع حسان إلى بيت معاذ لتلعب مع حمزة، ولكن سأحكيها لك بالتأكيد إن شاء الله..
فأسرعت سوسن تقول:
- أنا سأحكيها لك فأنا أعرفها..
لكن محسن أجابها:
- لا أريد، سأسمعها من سمية..
فقال لها والدها مشجعا:
- لا بأس ستحكيها لي فأنا أريد سماعها..
فردت سوسن وكأنها لم يرق لها أن تُدارَى كالصغار:
- أنت تعرفها طبعا، ولكن محسن لا يعرفها!
في حين قال محسن بكبرياء طفل يحاول تقليد الرجال الكبار:
- ومن قال لك بأنني أريد أن اعرفها منك؟؟
فتدخلت سمية:
- ما رأيكما أن يحسب كل واحد منكم كم عدد الأنبياء الذين تعرفون قصتهم، والذي يعرف القصة يحكيها للذي لا يعرفها؟؟
فبادرت سوسن بسرعة:
- أعرف قصة سيدنا آدم عليه السلام، وقصة سيدنا نوح وقصة سيدنا صالح..
فقاطعها محسن:
- وأنا أعرف قصصهم أيضا، وأعرف قصة سيدنا سليمان وسيدنا إبراهيم وسيدنا يوسف.....
وبدأت قائمة المنافسة تطول بينهما، فيما نهضت الأم حاملة بعض الصحون الفارغة إلى حوض الغسيل مرددة:
- الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا من المسلمين، هيا يا أولاد حاولوا إنهاء واجباتكم بسرعة، فلا أريد سهرا عند عودتكم من الجامع بعد التراويح
فيما أسرعت سمية الى مساعدتها وهي تشمر عن ساعديها لتبدأ التنظيف، وتبعتها سارة وردد الأب وهو ينهض حاملا الصحن الفارغ أمامه كما فعل البقية:
- جزاك الله خيرا يا مريم، كان إفطارا شهيا والحمد لله الذي أطعمنا هذا ورزقنا اياه من غير حول منا ولا قوة..
***
جلس حسان مع أصيل قبل العشاء على المقاعد الخشبية أمام الطاولة المصنوعة من جذع شجرة مقطوعة في حديقة منزل أصيل لحل بقية الواجب، وما إن اطلع حسان على القيم التي أوجدها أصيل للعدد الطبيعي حتى هتف:
- ما شاء الله، ما هذه الدقة يا أصيل!! أخبرني كيف وجدتها؟
فضحك أصيل:
- تعاملت معها على أنها لعبة مسلية، تعال وانظر..
وأشار بيده إلى دوائر مرسومة بعود ومحفورة على التراب تحت شجرة الخوخ الكبيرة، متابعا:
- حاولت تقليد أرخميدس!
فقال حسان وهو يتأمل الدوائر التي بالكاد استطاع تمييزها على ضوء مصابيح الزيت المعلقة على أغصان الشجر:
- وهل حسبها هكذا!
فهز أصيل كتفيه:
- ربما، ألم نقرأ أنه كان يرسم دوائره على التراب!
هتف حسان بإعجاب:
- ما شاء الله، ربطك للأمور ببعضها البعض رائع، أنت موهوب يا أصيل ما شاء الله!
فضم أصيل قبضة يده اليمنى وقربها إلى فمه مصطنعا الوقار:
- هل أدركت ذلك الآن فقط!
لكزه حسان:
- دعك من هذا الآن، ودعنا نكمل الواجب قبل أذان العشاء..
رد أصيل متثائبا:
- لا تثقل علي هكذا فلم أهضم طعام الفطور بعد!
فصرخ به حسان:
- يا لك من كسول، متى سننتهى منها ونحن على هذه الحال!
قال أصيل:
- تذكر نفسك عندما قلتَ بعد العصر بأنك لن تركز ومعدتك خاوية، فعذرتك، والآن جاء دورك لتعذرني...
فراجع حسان نفسه قبل أن يقول:
- معك الحق، رغم أنني تابعت رسم الدوائر كما اتفقنا في المنزل ونسيت نفسي!
قال أصيل:
- إذن تعادلنا.. فدعنا نكمله بعد التراويح..
لكن حسان قال بتوسل:
- لن أستطيع السهر أنت تعرف أمي..
فأمسك أصيل كراسته وتابع بعينيه النتائج التي حصل عليها:
- لا تعقد الأمور كل ما علينا فعله هو حساب متوسط الأرقام، ومن ثم التعويض عنها في هذه المسألة، لن يأخذ منا وقتا طويلا فلا تقلق..
ثم استطرد قائلا:
- هل لاحظت شرود علاء اليوم!! قلبي يحدثني بأن هناك شيئا يخفيه عنا، وأظن ان حسام وطلال يعلمان بذلك، لقد كانت تصرفاتهم مريبة بعض الشيء!
فقال حسان:
- أرجوك لا تبدأ بأخذ دور المتحري الذكي، دعنا ننهي الواجب بسرعة!
لكن أصيل قال بإصرار:
- أنا جاد هذه المرة، ألم تلحظ ردة فعله بعد ثناء المدرب سعد عليه اليوم؟؟ لقد كانت أفضل مرة يصيب فيها علاء هدفا، ومع ذلك لم يبد سعيدا على غير عادته عندما ينجز شيئا ما!! حتى في تجربة اليوم في درس علم الطبيعة، بالكاد تفاعل معها بعد فترة!
فقال حسان:
- ربما بسبب موضوع اختبار الترشح الذي يؤرقه!!
رد أصيل بهزة رأس تدل على عدم اقتناع:
- ربما...
ثم استطرد:
- لقد أعجبتني فكرة نضال، فوقوف علاء وجها لوجه أمام فاتك، يؤهله للترشح للاختبار وليت المدربين يأخذون هذا بعين الاعتبار..
وقبل أن يتم أصيل كلامه فتح باب المنزل وخرج والده إلى الحديقة فسلم عليهما بعد أن انتعل حذاءه:
- السلام عليكم، كيف حالك يا حسان؟
فنهض حسان بسرعة، و مد يده مصافحا السيد بلال باسما:
- الحمد لله، أبي يسلم عليك ويعتذر عن عدم الذهاب اليوم، فقد شعر ببعض التعب وسيصلي العشاء والتراويح في الجامع القريب إن شاء الله..
فرد بلال:
- لا بأس عليه طهور إن شاء الله، كنت اعتزم تعريفه بأحد الأصدقاء في جامع السوق، بلغه تحياتي ودعواتي..
ثم استدرك قائلا:
- أرجو أن تكونوا قد أنجزتم واجباتكم..
فابتسم أصيل قائلا:
- الحمد لله اطمئن يا أبي كل شيء على ما يرام، لم يبق إلا القليل..
فرمق بلال حسان بنظرة مستفهمة، قائلا بابتسامة ذات معنى:
- أرجو ذلك..
هل تحبان أن أوصلكما بالعربة إلى جامع الفتح، فسأمر بطريقه..
فشهق حسان:
- هل حان موعد العشاء؟؟
فرد السيد بلال:
- لم يبق للاذان إلا القليل، هل هناك شيء؟؟
فأسرع أصيل يجيبه بقوله:
- كلا كلا ولكننا كنا نريد أن نقول أنه لا داعي للاستعجال، ثم إننا نحب أن نتريض قليلا بالمشي إلى هناك، أليس كذلك يا حسان!!
فأومأ حسان برأسه موافقا، فابتسم بلال:
- انتبهوا جيدا لأنفسكم وفقكم الله، ولا تنسوا أن تطفئوا المصابيح قبل ذهابكم، مع السلامة..
قبّل أصيل يد والده:
- اطمئن سنكون عند حسن ظنك يا أبي إن شاء الله
وما أن خرج السيد بلال حتى انهمك الاثنان يحاولان تعويض ما فاتهم من وقت، لإنهاء الواجب بسرعة، فلم ينتبها إلا على صوت سارة:
- لقد ظننت انكما ذهبتما ونسيتماني!! ماذا دهاكما، ستقام الصلاة بعد قليل، لقد تأخرنا!!
فتنهد حسان بارتياح وهو يغلق كراسته:
- الحمد لله لقد انتهينا.. جئت في الوقت المناسب!
في حين لم يستطع أصيل مقاومة تعليقه الساخر:
- رغبنا أن نعطيك الوقت الكافي هذه المرة لكي تعدي نفسك دون استعجال!!
فردت سارة بحدة:
- هكذا إذن، ترمون أخطاءكم علي كالعادة!
فقال حسان وهو يضغط على يد أصيل بقوة زفر على إثرها الأخير من الألم:
- حقك علينا والآن هيا إلى الصلاة..
***
ترى.. ما الذي سيجري مع انتصار؟
وإلى متى ستظل في منزل الشيخ عبد الرحيم؟
وكيف ستقابل والدها بعد ذلك؟
وماذا عن علاء؟ وهل سينجع الأصدقاء في مساعدته لتجاوز أزمته؟
لا تزال الكثير من الأحداث تنتظركم في الحلقات التالية إن شاء الله، فكونوا معنا ^^
ولا تنسونا من صالح دعائكم
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم