الحلقة الواحدة والعشرون: مشكلة عائلية!
فوجئ حسام بعنوان الكتاب الذي ناوله إياه المعلم شاهر:
" لابــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــورا
الجــــــزء الرابــــــع
دوبسلاس ريف"
والتفت إليه قائلا:
- ألم تخبرني يا معلمي من قبل أنها قصة ليست جيدة؟
فابتسم المعلم شاهر قائلا:
- بلى ولكنها نسخة خاصة..
لم يبد على حسام أنه فهم شيئا، فتابع المعلم شاهر كلامه:
- كما قال لك الشيخ عبد الرحيم من الصعب أن تمنع إنسانا شيئا اعتاده دون أن تعطيه البديل، وحفاظك على علاقات طيبة مع أسرتك أمر هام في جميع الأحوال، ثم إنك تعلم أن أختك تنوي شراء النسخة عاجلا أم آجلا ولكن الفرق أنها إن اشترتها بنفسها ولم ترسلها لها ستكون من وجهة نظرك أنت قد برّأت نفسك أمام الله، أما هي ففي الغالب ستأخذ منك جانبا سلبيا تضيفه إلى حصيلة تراكمية كبيرة قد تؤدي إلى عواقب أخرى أكثر سوءا.. وكما قلت لك هذه نسخة خاصة.. فافتحه لترى ما فيه..
قلب حسام ورقات الكتاب ليجد هوامشها مزدحمة بتعليقات المعلم شاهر وإضافاته بشكل مرتب وواضح، لدرجة أنها أثارت فضوله، فتابع المعلم شاهر موضحا:
- القصة شائقة بلا ريب ومحبوكة بإحكام ولا أحد يستطيع أن ينكر جمال صياغتها وروعة عرض أفكارها وتسلسل أحداثها ومع ذلك لا أنصح أحدا بقراءتها لما تحويه من أفكار خاطئة تنافي معتقداتنا ومبادئنا، لكن هذا لا ينطبق على أختك التي تتابعها أصلا، في هذه الحالة يكون من الحكمة بيان ما فيها على طريقتهم..
أعجب حسام كثيرا بذلك الحل الذي لم يخطر بباله، لكنه تساءل:
- ما الذي تقصده يا معلمي بطريقتهم؟
فقال المعلم شاهر:
- بصفتي معلما للغتي سومار ورامان فإنني أتابع دائما جديدهما ويهمني الاطلاع على قصصهم ورواياتهم التي تنتشر بيننا ومدى تفاعل الناس معها ودراسة تأثيرها خاصة على الناشئة والشباب، والذين يحبون عادة النقاش بما يقرؤونه فيما بينهم وهذه هي طريقتهم التي يستمتعون من خلالها بتلك القصص والروايات وأظن أختك واحدة منهم..
عندها أدرك حسام ما يعنيه المعلم شاهر تماما، ستتحمس حليمة لتلك التعليقات والإضافات بلا شك، لكن المعلم شاهر قطع حبل أفكاره بقوله:
- وأخذا للحيطة حتى لا تستاء أختك من كونك لم تحضر لها نسخة جديدة، أخبرها أنك رغبت في الإسراع بإرسال الكتاب لها ولم يكن لديك الوقت الكافي لشرائه من السوق فأعطاك المعلم شاهر نسخته.. ولست كاذبا في ذلك..
وابتسم المعلم شاهر:
- ما رأيك؟
فابتسم حسام موافقا وقد ازداد إعجابه بمعلمه الذي عمل حسابا لكل شيء..
ظن حسام أن اللقاء قد انتهى فهم بالانصراف لكن المعلم استوقفه قائلا:
- هل تجيد أختك لغة سومار جيدا؟
فابتسم حسام وهو يقول:
- بل بشكل ممتاز جدا ما شاء الله، أختي تجيد ثلاث لغات بطلاقة غير لغة العرب..
أبدى المعلم شاهر إعجابه قائلا:
- ما شاء الله يبدو أنها فتاة شديدة الذكاء ولديها قدرات كبيرة..
ثم تناول كتابا آخر قدمه لحسام قائلا:
- هذه رواية قيمة بلغة سومار اطلعت عليها مؤخرا ولم أجد لها ترجمة، وقد عزمت على إعداد دروسكم القادمة في لغة سومار منها عوضا عن الرواية المقررة في دروس المنطقة النظامية..
ثم التقط نفسا قبل أن يتابع:
- أرسلها لأختك أيضا ففيها من الحكم الكثير وستعجبها بلا ريب
ألقى حسام نظرة على الغلاف، وشعر بحماسة شديدة وهو يقرأ:
" الطريـــــــــــق إلى الشمــــــس
لورابار كولي"
***
بدا التذمر واضحا على وجه حسان وهو يسير مع رفاقه باتجاه جامع الفتح لأداء صلاة الظهر، فعلق أصيل:
- إلى متى ستتحفنا بهذا الوجه العابس يا رجل!! هل أرسم لك ابتسامة كبيرة بالقلم؟
فرد حسان:
- لا داعي لهذا المزاح فلست بمزاج جيد..
ثم التقط نفسا قبل أن يقول بحنق:
- كيف لي أن أحتمل ما قاله المعلم أمين بأن علينا تعليم أخواتنا وبناتنا حقوقهن لأن جهلهن بها وسكوتهن عنها هو الذي ساعد الرجال على التمادي في الظلم، كأن هذا ما ينقص أختي!! والأجدر بي أن أتعلم كيف آخذ حقي منها!!
فقال ياسر:
- لم لا تذهب للمعلم أمين وتخبره، بدلا من أن تظل حانقا على كلامه هكذا!!
لكن حسان أردف قائلا:
- لا أشعر أننا بمدرسة للفروسية على الإطلاق! لا نأخذ ركوب الخيل إلا مرتين في الأسبوع والشيء نفسه مع الرماية وباقي علوم الجلاد، في حين أننا لا نكل ولا نمل من دروس علوم الجدال الكثيرة!! لا أعرف كيف سنصبح صناديد على هذا المنوال؟؟ أليس من الأفضل لهم أن يدربونا على مهارات أكثر في القتال والمواجهة لنكون فرسانا بحق!!
فابتسم حسام- الذي التحق برفاقه بعد أن وضع كتب المعلم شاهر في غرفته- مجيبا:
- هذا إن كنت تريد أن تصبح آلة صماء بلا عقل أو قلب تحارب بلا تفكير ولا رحمة..
وتابع طلال مؤكدا:
- يبدو أنك أخطأت فهم معنى الفارس الحقيقي الذي تسعى مدرسة النصر لإعداده يا صديقي..
طأطأ حسان برأسه، قبل أن يقول بأسى:
- ربما حمّلت الأمور أكثر مما ينبغي، ولكنكم لا تعرفون أختي ولو عرفتموها لعذرتموني ولكان للمعلمين رأي مختلف بلا شك!
عندها قال علاء الذي لم يبدِ رأيه حتى الآن:
- لو أنك فقدت أختك؛ لتمنيت اليوم الذي تعود فيه لتشاكسك مهما كانت!
انتبه حسان لنفسه فأسرع يقول متأثرا:
- اعذرني يا صديقي لم أقصد أن أثير أشجانك!
فابتسم علاء مُطَمئنا:
- لا تقلق فقد تعلمت درسا هاما من المعلم أمين..
وصمت وقد أحمرت وجنتاه دون أن يقول شيئا وكلمات المعلم أمين ترن في أذنيه وهو يحادثه على انفراد:
- إن شعرت أن الدروس التي تتحدث عن الأسرة والأهل عديمة الفائدة لك الآن أو أنها تثير أشجانك فقط فاعلم أن هذا درس ضروري لك أيها الفارس الهمام في مواجهة الحياة، فكن قويا ولا تتأثر بها إلا إيجابا، واعلم أنك قطعت أشواطا أكثر من زملائك وسيأتي اليوم الذي تستفيد منها بطريقتك..
عندها تذكر علاء ريحانة، تلك الفتاة التي قابلها في رحلته، ابنة صاحب قصر الذهب، فحدث المعلم بخبره معها وسأله:
- كيف لي التصرف مع هذه النوعية من الفتيات؛ إن واجهتني مرة أخرى؟
فابتسم المعلم أمين:
- أحسنت يا علاء بدأت تطبق الدروس بشكل جيد، مهما حدث يا بني حاول أن تحفظ نفسك مستعينا بالله ولكن كن رفيقا و إياك والإهانة أو التجريح..
***
استأذن قاسم بالدخول على المعلم أمين، وهو يحمل الكتاب (بحذر)، ثم فتح الباب ليجد حسان عنده فاعتذر بسرعة قائلا:
- ظننت أنني سمعت إذنك بالدخول يا معلمي، آسف على المقاطعة!
لكن المعلم أمين ابتسم قائلا:
- على مهلك يا قاسم، تفضل فلا شيء خاص، يمكنك الجلوس..
فوجئ حسان بكلام المعلم أمين، فهو يستشيره في أمر أخته ويستوضح أكثر عما أثار حفيظته في دروس اليوم، ثم هو يقول لا شيء خاص!!
لكن المعلم أمين تابع موضحا ليزيل أي لبس من ذهن حسان وقد لاحظ تغير وجهه:
- الكلام عن الحقوق والواجبات يهم الجميع، أليس كذلك يا حسان؟
أومأ حسان برأسه إيجابا ولم يقل شيئا، فقال المعلم:
- سيفيدك السماع عن هذا الموضوع أيضا يا قاسم، كنا نقول أنه في اللحظة التي يعرف فيها المستضعف حقه فلن يسكت عنه وستكون المواجهة أليمة ولا أحد يستطيع تخمين حجم الخسائر والتضحيات التي ستحدث حينئذ..
عندها سأله حسان بوضوح أكثر فلم يعد يرى أي حرج في متابعة الموضوع على هذه الشاكلة حتى ولو كان أمام شخص آخر:
- إذن لماذا تدعونا إلى تعليمهن ذلك يا معلمي؟ أليست القاعدة الفقهية تقول أن درء المفاسد مقدم على جلب المنافع؟
فابتسم المعلم أمين متعجبا من ذلك التفكير، وإن وجد فيه نباهة، ثم رد عليه بدوره:
- إذن لا داعي للتصدي لأعدائنا أو مواجهتهم حتى لا نتكبد الخسائر ولنرفع أيدينا بالاستسلام!
تابع المعلم أمين كلامه وهو يلحظ وقعها على نفس حسان:
- وعلى هذا المبدأ نفسه لن يكون هناك معنى لمعركة بدر الكبرى ولا غيرها من المعارك التي خاضها الصحابة و الرعيل الأول إعلاء لكلمة الحق..
والتقط نفسا قبل أن يتابع:
- الحق لن يسود بدون ثمن، ومن يرضى بالانهزامية لا يستحق أن يعيش في ظل العدل، ونحن نعدّكم يا أبنائي حتى لا تكونوا من أولئك الرجال الذين استمرؤوا التجبر وفرحوا بالسلطة والأتباع والطاعة العمياء، بل ولتقفوا في تلك الأزمة في مواجهة الأفكار الخاطئة في الداخل والتي قد تكون أصعب على أمتنا من المعارك الضارية مع أعدائها في الخارج، لعل الله أن يحفظ بكم الأسر المسلمة من التفكك والانهيار فلن يكون قبول ذلك سهلا على الذين اعتادوا فكرا ينسجم مع أهوائهم!!
وتنهد المعلم أمين بألم:
- ستكون المواجهة أليمة.. وربما أشد إيلاما من سقوط ضحايا في وجه حاكم جائر، أو شهداء خروا صرعى بعد معركة دامية مع أعداء لا يملكون في قلوبهم مثقال ذرة من الرحمة!!
كانت الكلمات تأخذ منحنيات مختلفة في نفس كلا السامعين، ففي الوقت الذي كانت تعصف فيه بمواريث الأفكار المتجذرة في نفس حسان، حفزت قاسم كثيرا ليقدم على ما عزم عليه، وهو يحدث نفسه:
- سأواجه بني جلدتي بالحق الذي عرفته حتى وإن خسرت صحبتهم فلا شيء يعلو على الحق ولن يدوم الباطل كثيرا، سأبذل جهدي لأبين لهم الطريق الصحيح بإذن الله عسى الله أن يجمع شملنا عليه، فيا رب وفقني وخذ بيدي واصرف عني نزعة الجاهلية وارزقني التقوى فلا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى..
(إن أكرمكم عند الله أتقاكم)
***
عاد حسان إلى بيته متأخرا أكثر من المعتاد وهو يفكر بكل ما سمعه اليوم.. لقد كانت أفكارا غريبة تماما عليه، ولا يعرف كيف يمكنه تقبلها أو من أين يبدأ بتطبيقها فعليا.. وأخيرا عزم على أمر محدثا نفسه:
- لن أخسر شيئا فلنجرب!
و أخذت كلمات المعلم أمين تتراقص أمام ناظريه:
"لم يبق سوى ثلاثة أيام أو أقل لشهر رمضان، فاجعله فرصتك في التغيير.. حاول أن تنظر إلى الموضوع من زاوية أخرى.. من منظورها هي.. وسترى الصورة بشكل مختلف عما تراه الآن.."
و لم يكد يدخل البيت ويلقي التحية، حتى سمع صوت سارة تبكي بحرقة وهي تخاطب أمه:
- لماذا علي أن أسكت؟ لماذا؟؟ هذا ظلم.. ظلـــــــــم..
في حين كانت أمها تحاول تهدئتها وهي تقول:
- أنت فتاة مهذبة وعليك أن تعتادي السمع والطاعة، وإلا لنفر الجميع منك، ولا تغتري بجدالي الحاد أحيانا مع والدك فهذا لم يحدث إلا مؤخرا ومن أجلكم، وإلا فالحياة تتطلب الكثير من التنازلات..
فقالت سارة:
- ولكنني أريد أن أبدي رأيي، إنني أفكر ولي عقل وأريد متابعة دراستي، هذا ليس عدلا.. حسان يفعل ما يريده وأنا كل شيء محرم عليّ.. لماذا.. لمـــــــــــــــــــــــ اذا!!!!!
لم أعد أحتمل هذا أكثر ولا يمكنني أن أطيق الحياة هكذا..
فربتت عليها أمها مهدئة بحنان:
- أخشى عليك يا ابنتي إن كبرت على هذا التفكير أن لا تجدي من يرضى بك زوجة له..
فردت سارة:
- وأنا لا أريد زوجا يعاملني كإنسانة غبية!
وقف حسان جانبا وابتعد عن الغرفة قبل أن يلحظه أحد، وقد شعر بالتعاطف مع سارة لأول مرة في حياته..
كان يوماً مختلفاً في حياته وهو يراقب ما يجري بصمت.. من زاوية أخرى..
***
كان معاذ يسير بصحبة أخيه الصغير حمزة، وهو يحمل الحاجيات من مركز التسوق المجاور لمنزلهم، عندما جذبه حمزة من كمه قائلا:
- انظر هناك، أليس ذاك صديقك حسان..
فالتفت معاذ باتجاه الحديقة، ليجد حسان بصحبة أخوته الصغار محسن وسوسن وهم يتأرجحون..
في حين ألح عليه حمزة بقوله:
- دعنا نذهب ونلعب معهم قليلا..
فرد عليه معاذ بقوله:
- لقد طلبت منا أمي أن نحضر لها الحاجيات بسرعة..
لكن حمزة قال له:
- أرجوك لن نتأخر، فقط لعبة واحدة!
وأخيرا استجاب معاذ لطلبه، خاصة وقد وجدها فرصة للسلام على حسان أيضا والحديث معه.. فنادى عليه مسلما في حين أسرع حمزة يشارك محسن وسوسن ألعابهم..
التفت إليه حسان:
- ما هذه المفاجأة يا معاذ، لم أتوقع رؤيتك في مثل هذا الوقت؟ هل اشتريتم مؤن التوزيع؟
فابتسم معاذ:
- أجل لقد وجدتُ المحل الذي أخبرتني عنه، من الجيد أن تجد من يبيع بسعر خاص لعمل الخير في رمضان، جزاه الله خيرا..
فقال حسان:
- لقد كنتُ مع أصيل هناك وأنهينا شراء الحاجيات تقريبا، وقد أخذت أخوتي حتى يبتهجوا برؤية الاستعدادات لرمضان أيضا، لقد ذهب أصيل قبل أن تأتي بقليل..
عندها قال معاذ:
- هل ستقيمون موائد الإفطار في الجامع القريب من منزلكم كرمضان الماضي؟
طأطأ حسان برأسه قبل أن يقول:
- لا أعرف يا صديقي، فظروفنا مختلفة هذه السنة ووالدتي تبدو متعبة، ربما تقوم والدة أصيل بذلك وحدها..
ثم تنهد قبل أن يقول:
- يبدو أن رمضان هذا العام مختلف عما قبله.. لقد تغيرت أمور كثيرة..
فرمقه معاذ بنظرات قلقة:
- ما الذي تعنيه يا حسان؟ خير إن شاء الله.. كنت أود الاطمئنان عليك بعد دروس اليوم فلم تكن في مزاج جيد ويبدو أنك ما زلت كذلك، فهل ما زال الموضوع يزعجك؟؟
عندها تنهد حسان:
- لو تعلم ما حدث يا صديقي، فقد تغيرت الحال..
فتساءل معاذ باستغراب:
- ما الذي تعنيه بتغير الحال؟؟
فرد حسان:
- القصة تطول، ولكن المعلمين على حق فيما يقولونه..
فوجئ معاذ بما سمعه، فسأله بتعجب:
- ما الذي غيرك بهذه السرعة يا حسان!! لا أكاد أصدق!!!
أمضى معاذ وقتا لا بأس به مع حسان قبل أن ينتبه إلى مرور الوقت، وبصعوبة أقنع حمزة بالعودة وأسرع إلى منزله ليجد أمه بانتظاره:
- هل هذا ما وعدتني به يا معاذ؟
فأسرع معاذ يبرر موقفه:
- لقد رغب حمزة باللعب بالحديقة قليلا..
لكن حمزة تدخل بقوله:
- بل كان يتحدث مع حسان يا أمي!
فرمقه معاذ بنظرات حادة:
- ألم تطلب مني أن آخذك إلى الحديقة لتلعب؟
وبدلا من أن يعترف حمزة بما حصل أمسك بثوب أمه قائلا:
- أنظري إلى معاذ يا أمي، إنه يخيفني بنظراته!
فضحكت أمه قائلة:
- حسنا لقد فهمت..
وابتسم معاذ وقد اطمأن قلبه:
- على كل حال ما زلت عند وعدي لك يا أمي، لن تجدي مني ما يسوؤك إن شاء الله، بل وسأصبح أرق من الابنة الحنونة يا أمي الغالية!
فحملقت فيه أمه بنظرات متعجبة:
- ما الذي حدث يا بني؟ هل حدث لك مكروه لا سمح الله حتى تقول مثل هذا الكلام؟؟ هل هذا هو ما أنتظر سماعه من الفرسان الأشداء الذين كنت أحلم بإنجابهم!!
فاستدرك معاذ:
- كنت أمزح معك فقط يا أمي..
ثم ضحك قائلا:
- لقد حيرتموني معكم يا جماعة!
و ضحكت أمه قبل أن يقول لها معاذ- وهو يقبل يدها بحب:
- سيكون رمضان هذه السنة نقطة تغيير في حياتي يا أمي، إن شاء الله..
***
كادت اللقمة أن تقف في حلق حسان -أثناء تناوله طعام العشاء- مع صراخ والده:
- لقد قلت وانتهى الأمر، لن تذهبي إلى مدرسة المستويات الخامس الثانية، يكفي ما تعلمته من عدم التهذيب في المستويات الخمس الأولى.. لذلك لا أريد سماع أي شيء يخص هذا الموضوع! لست أحسن من أختك سمية!
فقالت سارة بحدة:
- ولكن هذا ظلم وأنت لا ترضاه لنفسك يا أبي ودائما ما تعيب على الناس ذلك، فلماذا لا تستمع لنا ونتناقش بالموضوع بدلا من أن تحكم على الأمور هكذا؟ أنا لست مثل سمية ترضى بالتنازل عن حقوقها!
فحملق الأب فيها بغضب:
- كيف تجرئين على التحدث مع والدك بهذا الأسلوب؟؟
عندها وجدت الأم ضرورة ماسة لتدخلها بقولها:
- سارة فتاة ذكية و لم تقصد..
لم تكد تكمل كلامها حتى قاطعها الأب بقوله:
- أنت السبب في ما وصلت إليه ابنتك من وقاحة، علميها الأدب أولا فهذا أفضل لها.. ولك..
تمالكت الأم نفسها بصعوبة حتى لا ترد بشيء، فنهضت من حول المائدة وشدت سارة من يدها بعصبية:
- تعالي معي الآن..
واستدركت ملتفتة نحو محسن وسوسن اللذين كانا يأكلان بهدوء على غير عادتهما، فرمتهما بنظرات نارية:
- اغسلا ايديكما وأسرعا إلى النوم لا أريد إزعاجا هذه الليلة، هل هذا مفهوم؟؟
وبعد أن خرجتا قامت سمية ( الابنة الكبرى) بتنظيف المائدة وغسل الأطباق بصمت في حين قال حسان:
- ما المشكلة يا أبي في أن تلتحق سارة بالمستوى السادس؟ فالمدرسة ليست بعيدة من هنا وما زال أمامنا وقت حتى يحين موعد الالتحاق بها ودفع المستحقات ثم إنها أحرزت درجة عالية في دراستها وأبدت تميزا واضحا في علم الحساب وعلم الطبيعة من النادر أن تجد من يتفوق عليها فيهما ممن هم في مثل سنها ما شاء الله..
فأجاب والده:
- انظر إلى أمك لأنها كانت معلمة تجد لنفسها الحق في التجرؤ على زوجها ولولا صبري عليها وحلمي معها لكان شيء آخر، ألا ترى كيف تختلق المشاكل!! فهل تريد من أختك أن تصبح مثلها!!
فقال حسان:
- ولكن أمي لا تختلق المشاكل يا أبي، وكل ما في الأمر أنها تقول الحق الذي تراه ولا تسكت عن الخطأ، وهي مع ذلك تتغاضى عن أمور كثيرة كان بإمكانها أن تتكلم فيها!
فرد والده ببعض الحدة:
- تتغاضى!!! أي تغاض هذا الذي تتحدث عنه!!! أصبحت تحشر أنفها حتى في التجارة التي خبرتها وورثتها تاجرا عن تاجر!! أصبحت تحلل وتفسر سبب خسارة تجارتي الأخيرة وكأنها كبيرة التجار!!
فقال حسان بتودد:
- ولكن يا أبي ما الذي يمنع من أن يكون رأيها صوابا؟
فرد والده بغضب:
- ومن هي حتى تبدي رأيها في شيء لا تعلم عنه شيئا!! تدعي أنها تفهم الدين وتقرأ القرآن والقرآن يقول:(فاسألوا أهل الذكر)، فهل هي من أهل الذكر في هذا المجال حتى تتكلم؟؟
صمت حسان ولم يقل شيئا وهو يتساءل في نفسه.. هل يا ترى هذا ما عناه المعلم أمين...!! ثم هم بأن يقول: "ولكن أمي كانت سببا في تنبيهك على خطأ فادح في تجارة سابقة ثم تبين لك يا أبي صواب ما قالته وليس من العدل تجاهل ذلك"، لكنه آثر الصمت في حين تابع والده قائلا:
- حتى سارة التي لم تر من الحياة شيئا بعد ؛ أصبح لها رأي في الموضوع أيضا!! هذا ما كان ينقصنا!! علمناهم الدين ثم جاؤوا يستعرضون أنفسهم بفهمهم السقيم ونسوا أن المرأة إذا (صلت خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها دخلت الجنة)، هذا ما يجب على النساء تعلمه، فعلا.. ناقصات عقل ودين..
ثم تنهد قائلا:
- هذا خطئي من البداية، فقد كنت متساهلا أكثر مما يجب، ولولا إصرار أمك في البداية لآثرت إخراج سارة من هذه المدرسة أيضا.. فقد تعلمت بما فيه الكفاية ومن الأفضل لها أن تتعلم عمل المنزل وكيف تحسن معاملة زوجها في المستقبل (لتكون زوجة صالحة)..
عندها شعر حسان بالغضب:
- وماذا عن هذا الزوج يا أبي!! هل هو طفل صغير أم معتوه حتى تفني البنت جل حياتها في تعلم كيفية التعامل معه!! هذه إهانة لنا يا أبي، ولن أقبل أن أكون ذلك الرجل الذي يحتاج إلى كل تلك الرعاية والمداراة ويزعم أن بيده القوامة!!
فوجئ الأب بذلك الرد فقال موضحا:
- لم يزد التعليم البنات إلا سوءا في الأخلاق، رحم الله أمي لم أسمعها تعترض على أبي في حياتي كلها ولا حتى تناقشه بشيء، حتى أخواتي كلهن لم تكن واحدة منهن تجرؤ على الحديث بهذا الأسلوب.. هل تتوقع أن أجدادنا كانوا يسمحون بمثل هذه الفوضى؟؟ رحم الله ذاك الزمن..
فرد حسان معلقا:
- ولكن أليس ذلك الزمن هو الزمن الذي توالت فيه النكبات على الأمة بعد تمزق وانهيار الخلافة؟
حملق الأب بحسان بنظرات ذات مغزى وهو يقول:
- أهذا الذي تتعلمه في مدرسة الفروسية؟ لقد أرسلتك إلى هناك لتصبح فارسا قويا لا لتجادل بالمبادئ والقيم التي تربينا عليها!! ما الذي جرى لك يا حسان؟؟ لم تكن هكذا أم أنهن أثرن عليك أيضا!! أريدك أن تكون رجلا!!
فخفض حسان صوته وهو يقول - كأنه مخاطبا نفسه:
- وهل الرجولة في تجاهل آراء الآخرين وتسخيفها!!
وفي تلك اللحظة دخل وسام - شقيق حسان الكبير- مسلما فالتفت إليه والده قائلا:
- وعليكم السلام، هل بعت البضاعة؟
فأجاب وسام وهو يجلس متناولا طبق الطعام الذي وضع خصيصا له:
- لقد انتظرت المشتري طويلا لكنه لم يعد فأغلقت المتجر..
ثم استدرك:
- هل حدث شيء؟ أمي تبدو معكرة المزاج!!
فرد والده:
- ومنذ متى رأيتها بمزاج جيد!! القصة نفسها منذ أن أدخل المنزل جدال وصراخ.. وكأنه لا ينقصني إلا هذا الهم..
فقال وسام وقد شعر بتعاطف كبير مع والده:
- كل هذا لأنك طيب يا أبي، كان الله بعونك، قلت لك ألف مرة النساء لا ينفع معهن إلا الرجل الحازم صاحب العين الحمراء وأنت متساهل جدا..
لم يستطع حسان السكوت فهب واقفا:
- ما الذي تريده بكلامك هذا!!
فالتفت اليه وسام:
- وما دخلك أنت؟؟ هل صرت في صف النساء!!
فقال حسان بحدة:
- ألا تعرف عن من تتحدث بهذه الطريقة؟
فتدخل الأب قائلا:
- يكفي هذا الآن..
فنهض حسان وقبل يد والده قبل أن يخرج قائلا:
- سامحني يا أبي إن رفعت صوتي أو أغضبتك فلم أكن أقصد..
اتجه حسان نحو غرفة أخته سارة ليجد سمية جالسة معها تواسيها:
- أنت فتاة شجاعة وأنا فخورة بك، ولكنك لن تأخذي حقك بهذه الطريقة..
لكن سارة قاطعتها بقولها:
- لا أريد نصائحك هذه، انظري إلى نفسك سلبية دائما، لا رأي لك ولا احترام رغم أنك أكبر من وسام وحسان!!
فقالت سمية بهدوء:
- أوافقك الرأي يا أختي، هم مخطئون بلا شك ولكن علينا التصرف بحكمة، ثم إن أجر التسامح...
فقاطعتها سارة مرة أخرى بنفاد صبر:
- قلت لك لا أريد سماع نصائحك، هذا ليس تسامحا بل ضعف واستسلام واستكانة وأنا لا أريد أن أكون مثلك؛ بل مثل أبي وأنا ابنته.. انظري إليه، يشتكي من ظلم الحاكم ليل نهار وأن قوانينه وتسلطه كانا سببا في خسارة تجارته، ويعيب عليهم إغلاق أبوابهم دون سماع رأي الناس، ولا يأتي مجلساً إلا ويتكلم في هذا الموضوع.. فلماذا لا يقدم السمع والطاعة ويعفو ويصفح ويتسامح!!
حاولت سمية أن تكون أكثر حكمة بقولها:
- إنني أقدر موقفك يا أختي، بل ومعجبة بك وبقوة شخصيتك رغم أنك أصغر مني بسبع سنوات، ولكنني خائفة عليك من أن تغضبي والدي فيغضب الله عليك وهيهات أن تُوَفّقي بعدها!
فقالت سارة:
- أنا لا أتعمد إغضابه، ثم إنني لست سيئة- ولله الحمد- كل ما أريده حقي فقط، وأن أكون مثل والدي فلماذ يعيب عليّ ما يفعله!!
فقالت سمية:
- اسمعيني يا أختي أنت تشعرين بالظلم رغم أن حالنا أفضل من حال الكثيرين والحمد لله، تذكري أن أبي رجل طيب وهو أفضل من غيره من الرجال، أنت لا تعرفين ماذا يصنعون..
فأجابتها سارة:
- هذا ليس مبررا!! وكما قلت لك أنا أفضل من بنات كثيرات أيضا وأنت لا تعلمين ماذا يصنعن من وراء آبائهن هؤلاء..
عندها قالت سمية وقد بدا أنها استنفدت كل ما لديها:
- كفاك عنادا يا أختي أرجوك.. حاولي أن تتعلمي الصبر، فهذا قدرنا..
فردت سارة بحدة:
- وسأكون قدرهم إن شاء الله..
وفي تلك اللحظة نادت الأم على سمية فلبت نداءها مسرعة في حين ألقى حسان التحية على سارة مستأذنا بالدخول- إذ لم يشأ مقاطعتهما من قبل- فالتفتت إليه سارة بعيونها المتورمة من كثرة البكاء:
- ما الذي تريده أنت أيضا ؟؟؟
فقال حسان:
- ألا يمكنني الجلوس لنتكلم قليلا؟
فأجابته سارة بعصبية:
- لقد سئمت منكم كلكم، حفظت الدروس غيبا.. جدي وجدتي.. عمي وعمتي، شكرا لا أريد سماع المزيد..
ولأول مرة يحاول حسان احتواء أخته الغاضبة؛ فقال بروية:
- لقد سمعت ما قلتيه لسمية وأوافقك الرأي في معظمه..
لم تصدق سارة أذنيها في البداية فقالت:
- أجئت لتسخر مني؟؟
لكن نظرات حسان الجادة ونبرته الحازمة، جعلتها تطمئن فأصغت له باهتمام وهو يقول:
- لقد أخذنا درسا جديدا اليوم في المدرسة وأظنه سيعجبك..
تلهفت سارة لسماع ذلك الدرس لا سيما وأنها من أشد المعجبين بمدرسة النصر للفروسية ولطالما غبطت حسان على التحاقه بها، وما إن أعاد حسان عليها ما أخذه من دروس حتى قفزت سارة بفرح وهي تهتف بحماس:
- يعيش المعلم أمين.. يعيش..
ثم صمتت فجأة تستوثق مما سمعته وألف سؤال وسؤال يدور بخلدها:
- هل حقا هذا ما قاله المعلم؟؟ هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأخذ برأي زوجاته ويستمع إلى بناته؟؟ هل كان لهن دور كبير في انتشار الإسلام وبناء حضارة الأمة، غير طاعة الرجل سواء كان أبا أو زوجا أو أخا!!
فابتسم حسان مؤكدا كلامه في حين ترقرقت عينا سارة بالدموع:
- كم أحب الرسول صلى الله عليه وسلم، ليتني أراه.. أريد أن أقرأ كل شيء عنه، أجل.. أريد أن أتعلم عنه كل شيء.. كل شيء إن شاء الله.. يا حبيبي يا رسول الله..
وردد حسان:
- اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
ثم قال:
- لقد طلب منا المعلم رائد أيضا إعداد بحث عن إحدى أولئك النساء العظيمات، فهل تساعدينني فيه؟
عندها نظرت اليه سارة بمكر:
- هكذا إذن، أسمعتني كل ذلك الكلام حتى أساعدك!!
فأسرع حسان يدافع عن نفسه:
- سامحك الله لم يخطر ذلك ببالي أبدا، ولكن قلت ربما تحبين الموضوع!
فابتسمت سارة:
- كنت أمزح معك لا تقلق، ثق أنني سأبذل جهدي في ذلك..
فقال حسان وهو يتنفس الصعداء:
- الحمد لله..
ثم تابع:
- في البداية لا أعرف عن من سأكتب؟ فالمعلم لا يريد موضوعا مكررا، وتقريبا اختار رفاقي معظم الشخصيات التي كنت أنوي الكتابة عنها!
فهتفت سارة وهي تضرب الطاولة بكفها:
- وجدتها.. أتمنى أن لا يكون أحد من رفاقك قد كتب عنها..
فنظر إليها حسان متسائلا:
- من هي؟
فقالت سارة بثقة:
- السيدة سمية أم عمار بن ياسر رضي الله عنهم، ما رأيك؟
بدا التردد قليلا على وجه حسان وهو يقول:
- لا أعلم إن كانت تعد ممن لهن دور كبير في نشر الإسلام، فدروسنا في سير أعلام الفرسان تتحدث عن الفارسات بشكل رئيس..
فحدجته سارة بنظرات حادة قائلة:
- ألا يكفي أنها صمدت في وجه ذلك الرجل الطاغية المتغطرس المغرور أبو جهل ولم تستسلم له، فكانت أول شهيدة في الإسلام!! لن أساعدك في الكتابة عن غيرها، أريد لأختي سمية أن تعرف أكثر كيف كانت أول شهيدة في الإسلام التي يقول أبي أنه سماها على اسمها..
فابتسم حسان موافقا وهو يرفع كفه أمامها:
- حسنا حسنا.. ولكن لا تنظري إلي هكذا وكأنني أبو جهل!!
فضحكت سارة وهي تقول:
- اتفقنا إذن..
***
قد تكون هذه حلقة طويلة أخرى، عرفتكم على "سارة" بشكل مباشر لأول مرة!! فهل مشكلة سارة ستنتهي عند هذا الحد؟ أم أن هناك الكثير من العقبات التي تنتظرها في الطريق؟!
وما هو رأيكم بما يجري في بيت حسان؟؟!!!
وكيف سيكون وضع العائلة!!
المزيد من الفتيات قادمات في الحلقة التالية إن شاء الله..
استعدوا لحفظ المزيد من الاسماء، فأنتم على موعد مع سارة وصديقاتها في
مدرسة النور للبنات:d
لا تنسونا من صالح دعائكم
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم