الحلقة الحادية عشر: ليلى الربيع
- كل هذا بسببك، لقد كنت قاسيا جدا في كلامك مع نجيب، ألا تعلم أنه لا يستطيع الذهاب إلى المدرسة!!
وجهت ليلى ذلك الاتهام لعلاء، بعصبية فأسرع الفلاح ربيع يعتذر نيابة عنها، وهو يؤنبها:
- ما هذا الذي تقولينه يا ليلى، هذا عيب، علاء لم يفعل شيئا!
فاكتفت ليلى بالبكاء وهي تجري مبتعدة داخل الحقل، مما زاد من شعور علاء بالذنب فأطرق نادما وهو يقول:
- بل ما تقوله صحيح يا عمي، لقد أخطأت فلم أكن أعرف شيئا عن نجيب، ولم أكن أقصد..
ثم نظر اليه بعينين متوسلتين:
- أرجوك بلغ اعتذاري له، وأعتذر مرة أخرى عما سببته من إزعاج للجميع، فعلي الذهاب الآن..
ربت ربيع على كتفه مبتسما:
- لا تشغل بالك بما حدث يا علاء، فسرعان ما سيعود نجيب لطبيعته ، وأنا متأكد من أنه سيعود لاصطحاب ليلى لترى المهر، وستنسى ما حدث وكأن شيئا لم يكن، إنه سريع الانفعال وحسب هذا كل ما في الأمر، لقد اعتدنا عليه..
صافح علاء الفلاح ربيع بحرارة، ثم التفت إلى عماد مادا يده:
- حسنا إلى اللقاء..
لكن عماد استوقفه مقاطعا:
- ماذا أصابك يا ولد، سأعود معك.. فمنزلي في الطريق..
كانت هذه هي المرة الأولى التي لا يلاحظ فيها علاء ملامح الطريق الذي يسير فيه، وهو يسلك طريق الوادي كما أخبره المشرف عاطف، فقد كان فكره لا يزال مشغولا بما حدث، ورغم أن عماد حاول التسرية عنه، إلا أن محاولاته لم تجد نفعا، فقال أخيرا:
- إلى متى تنوي البقاء على هذا الحال يا علاء، الموضوع لا يستحق كل هذا!
لكن علاء أجابه بحزن عميق:
- بل يستحق أكثر، وربما لن تتاح لي فرصة رؤية نجيب مرة أخرى لأعتذر عما بدر مني، ليتني أستطيع إصلاح ما أفسدته على الأقل، بعد أن جرحت مشاعره دون أن أدري!!
- لا تقلق يا علاء، فنجيب ليس ضعيفا، وسرعان ما سينسى، ألم يخبرك العم ربيع بذلك؟؟ إنها مجرد لحظات عابرة لا أكثر..
فقال علاء بألم:
- ولكنني أنا السبب فيها، ما قالته ليلى كان صحيحا..
فوكزه عماد في خاصرته:
- لا تكترث لكلامها فهي ما تزال صغيرة لا تعي ما تقول، ثم إنها مستعدة لفعل أي شيء من أجل الدفاع عن نجيب ونبيل، فهي تعتبرهم بمثابة أخوتها الحقيقيين خاصة وأنه لا يوجد لديها أخوة أو أخوات، لذا تراها تتصرف أحيانا مثل الأولاد على عكس أختهم نهى التي تصغرها بعامين فقط..
فنظر إليه علاء متسائلا:
- هل تعرفهم جيدا يا عماد؟
أومأ عماد مجيبا:
- بالطبع، فقد كان والدهم السيد جابر رحمه الله مزارعا معروفا وصاحب أكبر مزرعة خيول في المنطقة، كما كان صديق والدي المقرب رحمه الله.
- والدهم توفي إذن!
- أجل يا علاء، ولهذا السبب تحمل نجيب مسؤولية كبيرة، في مساعدة والدته للعناية بأخوته والقيام بشؤون المنزل عوضا عن المزرعة الكبيرة، فقد توفي والده قبل أن تضع أمهم أختهم الصغيرة نور التي تبلغ من العمر ثلاث سنوات الآن. ثم التقط نفسا قبل أن يتابع:
- نجيب فتى طموح جدا يعانق السحاب بطموحه وآماله التي لا حد لها، لكن الظروف لا تسمح له بتفجير طاقاته المكبوتة في صدره، لذا تراه عصبي المزاج أحيانا، ومن لطف الله به أن سخر له ذلك الأخ الرائع نبيل، ما شاء الله..
كان علاء لا يزال مطرقا يفكر بما يسمعه، عندما سمع صوتا يناديه من بعيد فتوقف على إثره ملتفتا إلى الوراء ليشاهد نجيب على صهوة جواده يلوح له من فوق قمة جبل مشرف على الطريق، ولم يكد علاء يرفع يده ملوحا لنجيب هو الآخر وقد أشرق وجهه بشرا، حتى قذف نجيب نحوه لفافة كبيرة، قائلا بصوته الجهوري:
- أحتفظ بها وألجم بها حصانك، فهي هديتي لك يا علاء..
التقط علاء ببراعة الرمية المسددة نحوه بإحكام، هاتفا:
- جزاك الله خيرا يا صديقي، أعدك بأنني سأعود لزيارتكم عندما تتاح لي الفرصة إن شاء الله..
كان حدثا كفيلا بقشع سحائب الغمة عن وجه علاء، أما عماد فقد سُرّ كثيرا برؤية صديقه الصغير يستعيد بهجته من جديد، فابتسم قائلا:
- ألم أقل لك!
فابتسم علاء وهو يحمل اللفافة كمن يحافظ على كنز ثمين:
- لا.. لم تقل بأن نجيب سيأتي!
ضحك عماد وهو يرى علاء بمزاج جيد فأحب ممازحته قليلا:
- بالمناسبة، ما رأيك بليلى، رأيتك تحدق فيها، فهل أعجبتك؟
ارتبك علاء لتلك الملاحظة، فأسرع يدافع عن نفسه:
- لقد لفتت نظري وحسب فشكلها يبدو غريبا عن المكان..
فغمزه عماد بعينه قائلا:
- أخبرني ألم تكن جميلة ؟
ثم ابتسم متابعا وقد أعجبه انفعال علاء:
- هيا اعترف، دعنا نقول أنك أحببتها مثلا..
صرخ علاء وقد احمر وجهه من شدة الغضب:
- كفاك هراء ما هذا الكلام يا عماد، إنها لا تعدو عن فتاة صغيرة تُذكرني بأختي المتوفاة!
لم يكن عماد يعلم عن أخت علاء شيئا وشعر أنه قد يقلب عليه مواجعه، فأدار دفة الحديث وهو يخرج من جيبه علبة اسطوانية الشكل، فتحها وأخرج منها عودا قائلا:
- ما رأيك بعود كيومار لعله يعدل مزاجك قليلا؟
شهق علاء وهو ينظر إلى عماد بدهشة:
- هل تستعمل الكيومار يا عماد؟
فرد عماد بلا مبالاة:
- وما الغضاضة في ذلك!! إنها صنعة الرجال..
شعر علاء بغيظ يتميز في جسده:
- أي رجال هؤلاء!! ألم تسمع عن أضراره؟؟
فأجابه عماد بثقة:
- ولكنه ليس حراما، هناك من أفتى بأنه لا يعدو كونه مكروها لا أكثر..
ثم تابع كلامه وهو يشعل العود ويقدمه لعلاء:
- صدقني لن تندم، جرب واحدة فهي تهدئ الأعصاب كثيرا..
لم يكد يتم كلامه، حتى تلقى ضربة قوية من يد علاء أطارت العود من يده، أطلق إثرها صرخة مروعة:
- لقد كدت تكسر يدي!! ما هذا يا ولد!!
فرد علاء ببرود:
- تستحق أكثر من ذلك، هذا ما كان ينقصني منك يا عماد!!
فأجابه عماد متأوها وهو يفرك يده:
- لا ينفع معك المزاح أبدا..
فرد علاء:
- أرجو أن يكون درسا لا تنساه..
ثم استدرك معاتبا:
- أخبرني، لماذا أسأت إلى مدرسة النصر، وتكلمت عنها بغير الحقيقة؟
فقال عماد:
- اعترف أنني أخطأت.. لكنني كنت أعتقد دوما أنها سبب تعاسة ابن جيراننا الذي حطم آمال والده حين رفض منها بسبب فشله..
ثم التقط نفسا قبل أن يتابع:
- ولا أخفيك قولا يا صديقي .. فقد رفضت من العمل فيها بداية أنا أيضا..
فغر علاء فاه دهشة:
- أحقا ما تقول!!
ابتسم عماد:
- وما الغرابة في ذلك! هل تبدو علي النباهة والذكاء إلى الحد الذي يجبرهم على قبولي!
قالها ضاحكا.. وسط تعجب علاء، ثم تابع :
- اعترف أنني لم أكن أصلح لشيء وقتها رغم جهود والدي الكبيرة – رحمه الله – لكنني تغيرت الآن كثيرا بفضل الله ثم بدعاء أمي لي.. بالتأكيد ..
ثم ابتسم مازحا:
- ألا تعتقد بأنني أتحلى بشجاعة كبيرة لأتحدث عن نفسي هكذا! ما رأيك يا صديقي الصغير؟
فابتسم علاء:
- بل إنني واثق من هذا..
فهز عماد رأسه برضا:
- إذن، لا تكن مثل عمك عماد يا ولد، وابذل جهدك لتلتحق بمدرسة النصر بإذن الله..
وأخيرا نظر علاء إلى عماد نظرة إعجاب، فابتسم الأخير وهو يحك رأسه:
- لا تحدق بي هكذا يا ولد! إنك تشعرني بالحرج!!
فبادله علاء الابتسام قائلا:
- حسنا ولكن لا تنسني من دعواتك الطيبة يا عم عماد..
عندها تكلم عماد بنبرة شيخ وقور وهو يربت على كتف علاء:
- وفقك الله يا بني..
وضحك الاثنان..
وبعد أن تناولا الشطائر التي أعدتها والدة عماد على عجل وقد تضورا جوعا، قال علاء:
- لا أعرف ما الذي جعلك تصر على اصطحابي إلى منزلك تلك الليلة!
فابتسم عماد قائلا:
- في الحقيقة أحببت إدخال البهجة على قلب أمي، فهي تفرح بالضيوف كثيرا لا سيما وهي تقضي معظم الوقت وحدها..
هز علاء رأسه متفهما:
- هكذا إذن..
فقال عماد مؤنبا:
- ولكن إياك أن تكرر ما فعلته مرة أخرى، فمن لطف الله بك هذه المرة أنني لم أكن سيئا على الإطلاق، كن أكثر حذرا في المرات القادمة..
عندها رمقه علاء بنظرات متسائلة:
- هل تعني أنك أجريت لي امتحانا ففشلت فيه يا أستاذ عماد؟
فابتسم عماد مداعبا:
- تستطيع قول هذا، فيبدو أنني أحببت أن تشاركني الشعور بالفشل في الامتحان..
فابتسم علاء:
- أعاذنا الله من الفشل واليأس ووفقنا لخيري الدنيا والآخرة..
وردد عماد:
- اللهم آمين..
كانا قد وصلا مفترق الطريق، فشد عماد على يد علاء يودعه وهو يحاول إعادة العصا إليه، لكن علاء رفض قائلا :
- لست بحاجة إليها، بينما أنت مازلت في حاجتها حتى تصل المنزل، فقدمك لم تشف بعد..
فقال عماد وهو يرمي بثقله على العصا:
- إذا كنت مصرا فجزاك الله خيرا..
ثم التقط نفسا قبل أن يتابع بجدية كبيرة، رغم طبيعته الساخرة:
- نصيحة صغيرة أرجو أن تتذكرني بها يا علاء.. لا تغضب كثير ا لتعليقات الآخرين وإلا كنت هدفا سهلا أمامهم وتذكر قوله تعالى: ( واعرض عن الجاهلين )..
أشرق وجه علاء وقد أدرك أمرا عظيما يفتقر إليه كثيرا:
- جزاك الله خيرا، لن أنسى نصيحتك القيمة أبدا بإذن الله..
***
وصل علاء المدرسة ليجد عدنان بانتظاره على أحر من الجمر ..
- الحمد لله على سلامتك يا علاء، لقد قلقت عليك كثيرا!
فاعتذر علاء وهو يصافحه:
- أنني آسف حقا فــ..
لكن عدنان لم يمهله ليتم عبارته إذ سارعه بقوله:
- فيما بعد يا صديقي ستخبرني بكل شيء- إن شاء الله- أما الآن فالمدير شامل بانتظارك..
خفق قلب علاء بشدة وهو يدلف إلى غرفة المدير بحذر، وكأنه بات يخشى المفاجآت..
وما إن وقف أمامه حتى ابتدره المدير بوجه يخلو من أي تعبير:
- عدت توا من مهمتك، أليس كذلك ؟
أومأ علاء برأسه وهو يشعر بحرج شديد:
- بلى..
فتابع المدير بحزم:
- وهل أديتها على الوجه المطلوب منك؟
أطرق علاء -وقد دارت الأفكار والأحداث التي مر بها في رأسه بسرعة - قبل أن يجيب:
- ليس تماما!
فسأله المدير:
- ما الذي تقصده بقولك هذا؟؟ أريد جوابا شافيا..
سرت رعشة خفيفة في جسد علاء لتلك اللهجة الصارمة، وهو يعلم يقينا أن لا شيء يعلو على الصدق وقول الحقيقة، فجمع شجاعته وهو عازم على ذكر أسباب تأخيره، بداية من جدار الأخبار وحتى التقائه بعماد وما صادفهم بعد ذلك، فقال:
- إن أذنت لي يا سيدي المدير فسأحدثك بما حدث معي لتحكم بنفسك..
أبدى المدير موافقته بقوله:
- هات ما لديك..
***
احتار علاء بعد خروجه كثيرا؛ فهو لا يعرف جهة محددة ينصرف إليها، إلا العودة إلى ذلك الإسطبل من جديد، فالمدير لم يجد له عملا آخرا ولم يعلمه بما يتوجب عليه فعله..
استقبله عدنان بقلق شديد وهو يرى أمارات التجهم والذهول بادية على وجهه فهرع إليه، ليجلسا معا فوق القش في الإسطبل، بعد أن وضع عدنان فرشاة التنظيف من يده:
- خير يا علاء، ماذا حدث ؟ هل من جديد!!
أطرق علاء وهو يحاول الاحتفاظ برباطة جأشه، رغم قلقه الشديد:
- الحمد لله، لا تقلق بشأني يا عدنان..
لكن عدنان لم يتركه:
- ألم يقل لك المدير شيئا ؟
تنهد علاء أخيرا وهو يقول:
- لا أدري ما الذي كان يعنيه بالضبط، لكنه أشار إلى أن الشجاعة والقوة من أهم ركائز المدرسة، ثم سألني عن أهم فائدة خرجت بها من تلك المهمة!
فسأله عدنان بلهفة:
- وماذا كان جوابك يا علاء؟
فقال علاء بعد أن قص على عدنان ما حدث معه في الطريق:
- قلت له بعد تفكير عميق، أنه برغم الفوائد الجمة؛ إلا أن هناك فائدتين عظيمتين احتار في تفضيل إحداهما على الأخرى، فالأولى تتعلق بشخصيتي، حيث نبهني عماد جزاه الله خيرا إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا تغضب ).. بالإضافة إلى قضية هامة وخطيرة متمثلة في قوله سبحانه وتعالى: ( يا أيها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) ، أما الثانية فهي أهمية اختيار الكلمات وانتقائها بدقة قبل نطقها، فقد نسبب إيذاءً لشخص ما دون أن ندري، وربما تكون سببا في ندامة لا تحمد عقباها، فالكلمة تملكها قبل أن تخرج، فإن خرجت ملكتك ولن تستطيع إعادتها..
وصمت علاء يلتقط أنفاسه وصورة نجيب لا تفارق مخيلته، لكن عدنان حثه على المتابعة وهو يسأله:
- وماذا كان رد المدير؟
أغمض علاء عينيه كمن يتأمل المشهد لينقله بدقة:
- دعا لي بالبركة والتوفيق ثم قال، آمل أن تكون قد وعيت ذلك جيدا، بعدها أخبرني أنني أستطيع الانصراف!
فابتسم عدنان وقد اطمأن قلبه إلى حد كبير:
- أبشر بخير يا صديقي، فكلام المدير مطمئن جدا..
أطرق علاء برأسه مرددا:
- أرجو ذلك..
ثم التفت إلى عدنان والتردد باديا في عينيه، ولم يخف على عدنان ملاحظة ذلك فشجعه على الكلام بقوله:
- كأن أمرا ما يشغل فكرك بشدة، هل هناك شيء يا علاء؟؟
فقال علاء رغم تردده الواضح:
- لا أعرف إن كان من حقي السؤال أم لا!
وبعد أن التقط نفسا تابع:
- هل تعرف نجيب ونبيل يا عدنان؟
فقال عدنان:
- تقصد أصحاب مزرعة الخيول؟
فأومأ علاء برأسه إيجابا:
- أجل، لقد أخبرني عماد أنهما يمتلكان مزرعة للخيول..
فابتسم عدنان:
- بالطبع أعرفهما، فهناك صلة قرابة تربطني بهما من جهة أمي..
عندها فتح علاء فاه من المفاجأة:
- أحقا ما تقول!! إذن أنت تعرفهما جيدا!
ضحك عدنان من لهفة علاء قائلا:
- إلى حد ما، فقد كنت أزورهما مع أمي، ولكن أخبرني، ما الذي تريد معرفته عنهما؟
احمر وجه علاء خجلا فقد شعر أن في كلام عدنان إشارة إلى فضوله، لكنه قال:
- لقد أخبرتك بما حدث مع نجيب وتأثره بكلامي.. في الحقيقة..
وبتر كلامه، فتابع عدنان:
- تريد أن تعرف الطريقة المناسبة لمساعدة نجيب في تحقيق طموحه وأحلامه بالالتحاق بالمدرسة؟ فأنت تشعر بالأسى من أجله أليس كذلك يا علاء؟
فأجاب علاء بلهفة:
- أنت تفهمني تماما يا عدنان!
ثم تابع بانفعال شديد:
- إذا كان لكل شخص ظروف تعيقه عن تحقيق أهدافه العظيمة؛ فمن سيقف في وجه أعداء أمتنا؟؟ ألسنا بحاجة لكل فارس قوي شجاع؟؟ لكم أتمنى أن أرى نجيب..
وبتر علاء عبارته وهو في أوج انفعاله، فقد بات كلامه واضحا، عندها أومأ عدنان برأسه:
- حسنا سأخبرك كل شيء عنهم، ولكن قبل ذلك أجبني، هل ما زلت تذكر مبادئ تنظيف الخيول؟
بدت الدهشة على وجه علاء، لكنه أومأ برأسه:
- أجل، ولكن ما علاقة هذا بما كنا نتحدث عنه!!
فأردف عدنان موضحا:
- ألم أنبهك الى ضرورة ملاحظة ضربات أذنها حتى لا تضغط على الأجزاء الحساسة في جسمها، فتلقى ما لا يحمد عقباه؟
لمعت عينا علاء وقد فهم مغزى الحديث، فقال:
- معك حق يا صديقي، يلزمني الكثير حتى أنتبه للأوتار الحساسة عند الآخرين فلا أضرب عليها، أعدك أنني سأبذل جهدي لأتجنب الوقوع في هذا الخطأ مرة أخرى إن شاء الله..
فابتسم عدنان:
- اسأل الله أن يوفقنا جميعا لحسن التصرف، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، هل وجود هذه الأجزاء الحساسة في جسم الحصان تمنعه من أداء مهمته؟
لاذ علاء بالصمت وهو يحاول التمعن فيما يرمي له عدنان الذي التقط نفسا عميقا قبل أن يتابع:
- أخبرني يا علاء، هل الأمة بحاجة إلى أن يصبح جميع أبنائها فرسانا!!
كان سؤاله مباغتا، هز كيان علاء بشدة، إذ لم يخطر بباله قط التفكير بهذه الطريقة، فأطرق برأسه مفكرا حتى قطع عدنان الصمت بقوله:
- بالطبع لا يا علاء، ألم تسمع قوله تعالى: ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة)؟ لو التحق الجميع بمدارس الفروسية ليتخرجوا فرسانا؛ فمن سيقوم بالأدوار الأخرى التي تحتاجها الأمة؟؟ هناك العديد من الثغرات، و لكل منا دوره الخاص الذي يسخره الله له، علينا اكتشافها بأنفسنا مستعينين بما أعطانا الله إياه من قدرات وهبات وسخر لنا من ظروف لنقوم بدورنا على الوجه الأفضل..
بدا علاء ساهما غارقا بتفكير عميق قلب موازينه التي يعرفها، فتكلم أخيرا:
- هل تقصد أن دور نجيب ليس في مدرسة الفروسية؟
- لا أعني نجيب تحديدا، وإنما أقصد بشكل عام أنه ليس بالضرورة أن يلتحق الجميع بمدرسة الفروسية ليقدموا شيئا للأمة، ومن يدري فقد يكون دور نجيب خارج المدرسة أنفع للأمة من التحاقه بها!
ثم استدرك عدنان قبل أن يقول:
- كأننا تحدثنا عن شيء كهذا من قبل، ألا تذكر يا علاء؟
بدت امارات الرضا على وجه علاء أخيرا وهو يستعيد من ذاكرته آثار ذلك الحوار الذي لم يكن قد وعاه جيدا آنذاك، فقال:
- جزاك الله خيرا يا عدنان، لقد فتحت لي آفاقا جديدة وأنا مدين لك بها..
فابتسم عدنان:
- أرى أنه لم يعد هناك شيء تريد معرفته عن نجيب وعائلته..
عندها تذكر علاء شيئا أثار فضوله بشدة، لكنه آثر الصمت، ولدهشته الشديدة، فوجئ بعدنان يقول له:
- تريد السؤال عن ليلى أليس كذلك؟ إنها فتاة يتيمة وهي ابنة السيد ربيع بالرضاعة..
فهتف علاء وهو يحملق بعدنان:
- لقد أصبحت تقرأ أفكاري يا عدنان! يبدو أن فضولي تجاوز الحدود!!
فابتسم عدنان:
- لا ألومك يا علاء فمظهرها يثير الفضول فعلا حتى أنني..
وصمت عدنان فلم يكمل عبارته، ولاحت له صورة قديمة لم تبرح ذاكرته، كيف لا وهي المرة الأولى التي يرى فيها تغير ملامح الفلاح ربيع، ذي الطبع الهادئ والوجه المتسامح، في صورة لم يعهده فيها من قبل، يومها كان يعاونه في حقله برفقة نجيب ونبيل ومعهم ليلى الصغيرة، التي شعرت بالحر الشديد وقد أخذ العرق يتصبب منها، كانت تجلس القرفصاء إلى جواره وهم يقتلعون الأعشاب الضارة، وهي تردد متذمرة:
- يا لهذا الحَر!
فابتسم نبيل:
- لم يجبرك أحد على المجيء معنا!
لكن ليلى رمقته بنظرة حادة:
- أنا لم آت معك أنت!
عندها شعر نبيل بأنه أغضبها فتدارك الموقف بسرعة:
- كنت أعني أن الحر شديد عليك يا ليلى، ثم لماذا ترتدين هذا المعطف ذا الأكمام الطويلة؟ لماذا لا تخلعينه؟
لكن الوجوم خيّم على وجهها، وهي تردد بحزن:
- لا أستطيع!
عندها التفت نجيب نحوها تاركا ما بيده وهو يسألها بلهفة متوجسة:
- لماذا؟ هل هناك شيء؟؟
لم تجب ليلى في حين ألح عليها نجيب السؤال- كمن وجد شيئا ويخاف إضاعته من جديد- إلى أن ردت أخيرا:
- لا شيء..
وهمت بخلع معطفها، لكنها لم تكد تفعل ذلك حتى انتبه الفلاح ربيع لها؛ فانتهرها بمشهد لم يألفوه من قبل، وهو يمسكها بقوة من يدها موبخا:
- لقد نقضت الاتفاق!
لكن ليلى أسرعت تدافع عن نفسها:
- صدقني لم أقصد، كان الحر شديدا يا أبي!
فهب نجيب مدافعا عنها- ونبيل إلى جواره:
- أعذرنا يا عمي فنحن من اقترح عليها ذلك..
كان عدنان يحاول وقتها تجاهل ما يجري، فعليه العودة مع أمه، لكنه لم يستطع منع فكره من الخوض فيما رآه، فقد كانت تلفت نظره قطعة القماش الملتفة حول معصمها باستمرار، إذ لا يذكر أنه رآها بدونها، أفيعقل أن تكون الأكمام عوضا عنها؟؟ ربما لم تكن ترتديها، رغم أنها لا تفارق معصمها أبدا..
بدا عدنان شاردا في أفكاره، وكأنه نسي وجود علاء إلى جواره، وهو يسترجع تلك الأحداث، حتى أنه لم يدر كيف سأل علاء:
- هل انتبهت إلى معصمها؟ أما زالت تلفه بقطعة القماش؟
فوجئ علاء من سؤال عدنان، فسأله بتعجب:
- وهل لهذا دلالة ما؟؟
فابتسم عدنان ضاحكا بعد أن انتبه لنفسه:
- لا تهتم لهذا يا صديقي، كان مجرد سؤال عابر!
ولم يخطر ببال أحد أن قطعة القماش الصغيرة تلك، تخفي تحتها سرا خطيرا وعظيما، أعظم من أن يستوعبه عقل فتاة صغيرة، تعيش حياة بسيطة وسعيدة بين المزارع والحقول..
مر الوقت سريعا، فانتبه عدنان إلى أنه لم ينته من تنظيف الخيول بعد، فنهض من مكانه وهو يردد كفارة المجلس:
- سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، أرجو أن لا أكون قد أثقلت عليك بكلامي يا علاء..
فقاطعه علاء:
- بل اعذرني أنا فقد أخذت من وقتك!
لكن عدنان بادره مطمئنا:
- لا تقل هذا يا علاء فقد أوشكت على الانتهاء تقريبا، وكنت بحاجة لاستراحة على أي حال..
وأخيرا تساءل علاء:
- ترى، ماذا يفترض مني أن أعمل الآن! هل أعاود العمل في الإسطبل من جديد؟
فأجابه عدنان وهو يتابع عمله بتنظيف الخيول:
- لا أعتقد ذلك فقد أخبرني المشرف عاطف أن إجازتي الطارئة قد انتهت وهذا يعني أنك أنهيت عملك في الإسطبل..
فتساءل علاء مجددا:
- وماذا سأفعل إذن!
توقف عدنان مفكرا للحظة، قبل أن يقول:
- لماذا لم تسأل المدير قبل خروجك ؟
فتنهد علاء:
- في الحقيقة لم اعرف كيف أتصرف وقتها..
ثم التقط نفسا وهو يشمر عن ساعديه، قائلا:
- على أية حال سأساعدك، لعلي أستطيع تعويض الوقت الذي تحدثنا فيه..
فهز عدنان رأسه وهو يعصر خرقة التنظيف:
- أوكد لك أنه لا داعي لذلك فقد أوشكت على الانتهاء، ثم إنك لم تنم ليلة أمس، فما رأيك أن تأخذ غفوة صغيرة قبل الظهر؟
لكن علاء أصر على قوله وهو يلتقط نفسا عميقا، فاتحا ذراعيه بقوة:
- إنني في قمة النشاط بفضل الله، ولا أشعر بالنعاس الآن، لذا تستطيع الاستراحة أنت، وسأكمل ما تبقى عنك، فانا لا أحب الجلوس متفرجا هكذا!
فابتسم عدنان:
- إذا كان لابد من ذلك؛ فسنعمل معا..
وفي تلك اللحظات دخل عليهما عاطف، فابتسم وقد سر لرؤيتهما يعملان معا:
- بارك الله فيكما يا أبنائي فقد أحسنتما صنعا، يد الله مع الجماعة ..
ثم وجه حديثه لعلاء:
- المدير يريدك في غرفته بعد صلاة الظهر..
والتفت إلى عدنان:
- وأنت يا عدنان.. تعال معه..
****
ما الذي يريده المدير من علاء؟؟ وما هو القرار الذي سيصدره بحقه؟
هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة إن شاء الله (:
حتى ذلك الحين.. يسعدنا مشاركتكم رسمة (ليلى الربيع) الفائزة في مسابقة رسم مدرسة الفروسية، من ابداع
"ريحانة قارة عبد الله" من الجزائر جزاها الله خيرا ^^
ولا تنسونا من صالح دعائكم (:
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم