هناك في البرزخ القائم بين حياة يحيياها وأخرى يحلم بها , يقيم الغامض , قريباً تلك الردهة المضاءة المسماة الظلمة, مستمتعاً بجحيم هذا الانحدار الروحاني , يبحث عن لسعة نار ولو أحرقته , ينتعل الشمس فقط كي يزرع حقول الآمال والأحلام في أرض جرداء . ويقاوم قتلة ضوء الشمس . لا يطأطئ رأسه أبداً لليل اللا معنى , مهما كثرت نجومه , أو طال سمره , أو كثر عشاقه .يحترق بروحه المتوهجة, الخفاقة , المحلقة , المتمردة , لمولعة بالسفر في عوالم الصفاء والإشراق والغواية والحرية , يمقت التدثر بعباءة المؤسسة , ويحلم بالتحرر من كل الأنساق المألوفة والجاهزة , والاحتراق برهبنته وتوحده مع ذاته ومع الكون , يجز خنجر الغربة روحه الشفافة أحياناً, وقد يصير الغامض عنوان الإبداع ويصبح هو المبدع , وقد يصير حلاج عصره ويحترق بنار التجاهل واللامبالاة و اللاعتراف , حين يصرخ أنا الجمال , أنا العمق , وحين يشق صدره للعامة , قد يتهم بالأنانية والتعالي , لكن سرعان ما تنكسر النصال على النصال , ويمضي المبدع ليرخي سجف عزلة ارتضاها لنفسه , حين رفض الانخراط , والإذعان لقيم مستهلكه ومعلبة , هو الوحيد القادر على الإبصار , وهو ذلك اللامنتمي .
أن الاضطراب والفوضوية أكثر عمقاً و تجذراً من النظام الذي يؤمن به قومه , إنه ليس مجنوناً , هو فقط أكثر حساسية من الأشخاص المتفائلين صحيحي العقول .
وعزلته ليست نكوصاً أو هروباً أو جنوناً أو عجزاً عن ترميم الصدع الفاغر فاه بين المبدع ومحيطه , بل هي رفض الانصياع لجحيم اللامعنى ولمحيط وجودي مبتذل , وتضخم الإحساس لديه بتفاهة العالم , فغدت عزلته فناً وبرجاً خلاقاً ومنتجاً . وانخراطاً طفولياً لنداء مجنون جارف . وإغواء موحشاً عذباً . ولا أظن أن المبدع سينزعج إذا حس بأيد ملائكية هادئة تطرق عزلته بهدوء وشفافية, وتشاطره شطحاته وعنف فرحه , دون أن تشوش حريته , يلجان معاً عوالم الماوراء , يبحثان عن نبتة الخلود , يرفضان معاً كل متاهة حقيقية تحرض على اللامعنى ويوتران حياة موشاة ببهاء الكلمة والعمق والصفاء , وخلوداً خرافياً هادئاً في حضن التاريخ .